وقيل : كانوا يَلْوُون ألْسِنَتهم، حتى يصيرَ قولُهم :﴿ وَرَاعِنَا ﴾ : رَاعِينَا، ويُريدُون : أنَّك كُنْتَ تَرْعَى أغْنَاماً لَنَا.
قال الفراءُ : كانوا يَقُولُونَ : رَاعِنَا [ ويُهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ سَمْعَك، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونة ] ويريدون الشَّتْمَ، فذاك هو اللَّيُّ، وكذلك قولهم :﴿ غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾ أرَادوا به، لا سَمِعْتَ فهذا هو اللَّيُّ.
فإنْ قيلَ : كَيْفَ جاءُوا بقولٍ يحتملُ الوجهيْنِ بعد تَصْريحهم بقولهم : سَمِعْنَا وعَصَيْنَا؟ فالجوابُ : أنه قال بعضُ المفسَّرين : إنهم كانوا يقولون « وعصينا » سراً في نفوسهم. وقيل : كان بعضُهم يقولُه سِرًّا، وبعضهم يقول جَهْراً.
قوله « لَيًّا بألسنتهم وطعناً » فيهما وجهانِ :
أحدهما : أنَّهُمَا مفعول مِنْ أجْلهِ ناصبُهما « ويقولونَ ».
والثَّاني : أنَّهُمَا مَصْدَرَانِ في موضع الحَالِ، أيْ : لاوين وطاعنينَ، وأصْلُ لَيًّا [ « لَوْيٌ ] » من لَوَى يلْوي، فأدغِمَتِ الواوُ في الياءِ بعد قلبها ياءً، فهو مِثْلُ « طَيٍّ » مصدر طَوَى، يَطْوِي.
و « بألسنتهم »، و « في الدين » متعلّقان بالمَصْدَرَيْنِ قبلهما، وتقدَّم في البَقَرة على قَوْله :« ولو أنهم قالوا ».
قوله :« لكان خيراً لهم » فيه قَوْلاَن :
أظهرهما : أن يكُون بمعنى أفْعَل، ويكون المُفَضَّل عَلَيْه « محذوفاً، أي : لو قالُوا هذا الكلام، لكان خَيْراً من ذَلِك الكَلاَمِ.
والثاني : أنه لا تَفْضِيل فيه ] بل يَكُون بمعنى جيّد وفَاضِل، فلا حَذْف حينئذٍ، والباءُ في »
بكفرهم « للسَّبَبية.
قوله :»
إلا قليلاً « فيه ثلاثة أوجُه :
أحدها : أنه مَنْصُوب على الاستثنَاء من ﴿ لَّعَنَهُمُ ﴾، أي : لعنهم الله إلا قليلاً منهم، فإنَّهم آمنُوا فلم يَلْعَنْهُم.
والثاني : أنه مستثْنى من الضَّمِير في »
فلا يؤمنون «، والمراد بالقَلِيلِ عبد الله بن سَلاَم وأضرابه، ولم يَسْتَحسن مَكِّي هذيْن الوَجْهَيْن :
أما الأوّل : قال : لأنَّ مَنْ كَفَرَ مَلْعُونٌ لا يُسْتَثْنَى منهم أحد.
وأما الثاني : فلأن الوجْه الرَّفع على البَدَل؛ لأن الكَلامَ غير مُوجِبٍ.
والثالث : أنَّه صِفَةٌ لمصدر محذُوف، أي : إلا إيماناً قَلِيلاً؛ وتعليله هو أنَّهُم آمنوا بالتَّوحيد وكَفَرُوا بمحمَّد ﷺ وشَرِيعَته.
وعبَّر الزَّمَخْشَري وابن عطيّة عن هذا التَّقليل بالعَدَم، يعني : أنَّهُم لا يؤمِنُون ألْبَتَّةَ كقوله :[ الطويل ]

١٨٠٧- قَلِيلُ التَّشَكِّي للمُهِمِّ يُصِيبُهُ كَثيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى والمَسَالِك
قال أبو حيان : وما ذكراهُ من أنَّ التقْليل يُرادُ به العَدَم صَحِيحٌ، غير أن هَذَا التَّرْكيب الاستثنائي يأباه، فإذا قُلت : لم أقُمْ إلاَّ قَلِيلاً، فالمعنى انْتفَاء القِيَامِ إلا القَلِيل، فيوجد منك إلا أنَّه دالٌّ على انْتِقَاءِ القِيَام ألْبَتَّةَ ]، بخلاف : قلَّما يقُول ذلك أحَدٌّ إلا زَيْد، وقَلَّ رَجُلٌ يفعل ذلك، فإنه يَحْتَمِل التَّقْليل المُقَابل للتكثيرِ، ويحتمل النَّفْي المَحْض، أما أنك تَنْفِي ثم تُوجِب، ثم تُريد بالإجَابِ بعد النَّفْي نَفْياً فلا؛ لأنه يَلْزَم أن تَجيء » إلاَّ « وما بَعْدَهَا لَغْواً من غير فائدةٍ؛ لأن انْتِفَاء القِيَام قد فُهِمَ من َوْلِكَ : لَمْ أقُمْ، فأيُّ فَائِدةٍ في استِثْنَاءٍ مُثْبَتٍ يرادُ به انْتِفَاء مَفْهُوم من الجُمْلَة السَّابِقة، وأيْضاً فإنَّه يُؤدِّي إلى ان يكُون ما بَعْدَ » إلاَّ « مُوافقاً لما قبلها في المَعْنَى، والاستِثْنَاء يَلْزَم أن يكُون ما بعد إلا مُخالفاً لما قبلها فيهِ.


الصفحة التالية
Icon