[ الحج : ١٧ ] ثُمَّ قَالَ [ بعده ] :« والذين أشركوا » يَقْتَضِي المُغَايَرَةَ.
قُلْنَا : المغايرةُ في المفهومِ اللُّغَويِّ، والاتِّحاد في الشرعي؛ دَفْعَاً للتَّنَاقُضِ، ويتفرَّعُ عليه أنَّ المسلمَ لا يُقْتَلُ بالذِّمي؛ لأنَّ المشركَ مُبَاحُ الدَّكِ؛ لقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ [ التوبة : ٥ ]، ومُبَاحُ الدَّمِ لا يُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ، ولا يتوجَّهُ النَّهْيُ عن قَتْلِه، ترك العَمَلِ بهذا الدليلِ في حقِّ النهي فَبَقِيَ مَعْمُولاً به في سُقُوطِ القِصَاصِ عَنْ قَاتله.
فصل في دلالة الآية على العفو عن أصحاب الكبائر
هذه الآيةُ أقْوَى الدلائلِ على صِحَّة العَفْوِ عن أصْحَابِ الكَبَائِرِ، من وجوه :
الأوَّلُ : أنَّ قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾ أيْ لا يغفرُهُ فَضْلاً معَ عدمِ التوبةِ؛ لأنَّهُ يُغْفَرُ وُجُوباً عند التوبةِ بالإجماع؛ فيكون قوله :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ﴾ على سَبِيلِ الفَضْلِ، حَتَّى يتواردَ النَّفْيُ والإثباتُ على مَعْنَى واحدٍ؛ كما لو قال : إنَّ فُلاناً شَاءَ لا يُعْطِي على سبيلِ فَضْلِ الوُجُوبِ، كان رَكِيكاً، وحينئذٍ : يَجِبُ أنْ يكُونَ المرادُ أصْحابَ الكَبَائِرِ، قَبْلَ التَّوْبَةِ؛ لأنَّ عند المعتزِلَةِ، غُفْرَانَ الصَّغائِرِ، والكبائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ- وَاجِبٌ عَقْلاً، فلا يُمْكن حَمْلُ الآيةِ عَلَيْهِ، فلم يَبْقَ إلاَّ الكَبَائِرُ قَبْلَ التَّوْبَةِ.
الثّاني : أنَّ ما سِوَى الشِّرْكِ، يَدْخُلُ فيه الكبائرُ قَبْلَ التوبةِ، وبعدَهَا، ثُمَّ حَكَمَ على الشِّرْكِ بأنَّهُ غيرُ مَغْفُورٍ، وَعَلَى غَيْرِ الشِّرْكِ بأنَّهُ مَغْفورٌ لمنْ يشاءُ، فَوَجَبَ أنْ تكونَ الكبيرةُ قَبْلَ التوبةِ مَغْفُورةٌ.
الثالثُ : أنَّه علَّقَ الغُفْرَان بالمشيئَةِ، وغُفْرَانُ الكَبِيرةِ بعد التوبةِ والصَّغِيرَةِ مَقْطُوعٌ به، فوجب أنْ يكونَ المعلَّق الكبيرة قبلَ التوبةِ.
فإن قيلَ : إنَّ تَعْلِقَهُ على المشِيئَةِ، لا يُنَافِي وُجُوبَهُ، كقوله تعالى :﴿ بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ ﴾، ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ أنَّه لا يُزَكِّي إلاّ مَنْ يكونُ أهْلاً للتَّزكِية، وإلاَّ فكانَتْ كَذِباً.
واعلمْ : أنه ليس للمعتزلةِ في مُقَابلة هذه الوُجُوهِ كلامٌ يُلْتفتُ إليه، [ إلا المعَارَضَة بآياتِ الوعِيدِ ].