الثاني : المعذَّبُ هو الإنسانُ في الجِلْدِ، لا الْجِلْدُ، بل الجِلْدُ كالشَّيءِ الملتَصِقِ به، الزَّائِدِ على ذَاتِهِ، فإذا جُدِّدَ الجِلْدُ، صَارَ ذلك الجلدُ سَبَباً لوصولِ العذاب إلَيْهِ، فالمعذبُ لَيْسَ إلاَّ العَاصِي؛ يدلُّ عليه قولُه تعالى :﴿ لِيَذُوقُواْ العذاب ﴾ ولَمْ يَقُلْ : ليَذُوقَ.
الثالثُ : قال السُّدِّيُّ : يُبَدَّلُ الجِلْدُ جِلْداً غَيرَهُ مِنْ لَحْمِ الكَافِرِ.
الرابعُ : قال عَبْدُ الْعَزِيز بنُ يَحْيَى : إنَّ اللهَ - تعالى - يُلبِسُ أهْلَ النَّارِ جُلُوداً لا تألَّمُ، بل هي تُؤلِمُهُم : وَهِيَ السَّرَابِيلُ فكُلَّمَا [ احترق ] جِلْدٌ بدّلَهُم جِلْدَاً غَيْرَهُ. طعن القَاضِي في هذا فقال : إنه تَرْكٌ للظَّاهِرِ، وأيضاً السَّرَابِيلُ مِنَ القَطرَانَ لا تُوصَفُ بالنُّضْجِ، وإنما تُوصَفُ بالاحْتِراقِ.
الخَامِسُ : يمكنُ أنْ يكونَ هذا استعارةً عن الدَّوَامِ، وعّدّمِ الانْقِطَاعِ؛ يُقالُ للموصوفِ بالدَّوام : كُلَّمَا انْتَهى فقد ابْتَدَأ، وكُلَّمَا وَصَلَ [ إلى آخره ] فقد ابتدَأ من أوله، فكذلك قوله :﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾ يَعْني : أنهم كُلّما ظَنُّوا أنهم نَضِجُوا واحْتَرقُوا وانتهوا إلى الهلاكِ، أعْطَيناهُم قُوَّةً جَديدةً من الحياة؛ بحيثُ ظنُّوا أنَّهم الآنَ وجدُوا، فيكونُ المقصودُ بيانَ دَوَام العَذَابِ.
فإن قيل : قوله :« ليذوقوا العذاب » إنما يُقالُ : فلانٌ ذَاقَ الشَّيءَ، إذَا أدْرَكَ شَيْئاً قَلِيلاً منه، والله تعالى قَدْ وَصَفَهُمْ بأنهم كانوا في أشدِّ العذابِ، فكيْفَ يَحْسُنُ أن يذكرَ بعد ذلك أنَّهم ذَاقُوا العذابَ؟
فالجوابُ : المقصودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ، الإخبارُ بأنَّ إحساسَهُم بذلك العذابِ، في كُلِّ حالٍ، يَكُونُ كإحْسَاسِ الذَّائِقِ بالنذُوق من حيثُ إنه لا يَدْخُلُ فيه نُقْصَانٌ، ولا زَوَالٌ، بِسَبَبِ ذلك الاحتراقِ.
ثُمَّ قال تعالى :﴿ إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾، فالعزيزُ : القادِرُ الغَالِبُ، والحَكِيمُ : الذي لا يَفْعَلُ إلاَّ الصَّوابَ، وما تَقْتَضِيه الحكمةُ؛ لأنَّهُ قد يَقَعُ في القَلْبِ تَعَجُّبٌ مِنْ كَوْنِ الكريمِ الرَّحيمِ يُعَذِّبُ هذا الشخص الضَّعِيفَ إلى هذا الحدِّ العَظيمِ أبَدَ الآبادِ.
فقيل : ليس هذا [ بَعِجب ] ؛ لأنه القادِرُ الغَالِبُ، فكما أنه رحيمٌ فهو أيضاً حَكِيمٌ، والحكمةُ تَقْتَضِي ذلك.


الصفحة التالية
Icon