وجوابه مَخصوصٌ بالمستام، فكذا في العَارِيَةِ، ودليلنا ظاهِرُ الْقُرآنِ.
قوله :﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل ﴾ [ فيكون ] قوله ﴿ أَن تَحْكُمُواْ ﴾ معطوف على ﴿ أَن تُؤدُّواْ ﴾ أي : يأمرُكُمْ بتَأدِيةِ الأمَانَاتِ والحكم بالعَدْلِ، فيكونُ قد فصل بَيْنَ حرف العَطْفِ، والمعطوف بالظَّرْفِ. وهي مسألة خلاف ذَهَبَ الفَارِسِيُّ إلى منعها لإلاّ في الشِّعْرِ.
وذهب غَيرُهُ إلى جَوازِهَا مُطْلَقاً، ولنصححّ مَحَلّ الخلافِ أولاً : فنقولُ : إن حرف العطف إذا كان على حَرْفٍ واحدٍ كالواو، والفاء هل يجوزُ أن يفصل بينه، وبين ما عطفه بالظَّرف وشبهه أم لا؟
فَذَهَبَ الفَارسِيُّ إلى منعه مُسْتَدِلاً بأنَّهُ إذا كانَ على حَرْفٍ واحدٍ، فقد ضَعُفَ، فلا يتوسّط بينه، وبين ما عطفه إلاّ في ضَرُورةٍ كقوله :[ المنسرح ]

١٨١٠- يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أرْدِيَةِ الْ عَصْبِ وَيَوْماً أديمَهَا نَغِلاَ
تقديره : وترى أديمها نغلاً يوماً، [ ففَصَل ب « يَوْماً » ]، وذَهَبَ غَيْرَهُ إلى جَوَازَهُ مُسْتَدِلاّ بقوله :﴿ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً ﴾ [ البقرة : ٢٠١ ]، ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ]، ﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً [ ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً ] فَأغْشَيْنَاهُمْ ﴾ [ يس : ٩ ] ﴿ الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ ﴾ [ الطلاق : ١٢ ]. ﴿ أَن تُؤدُّواْ الأمانات ﴾ [ الآية ]، وقالَ صَاحِبُ هذا القول : إنَّ المَعْطُوفَ عليه إذَا كانَ مَجْرُوراً بِحَرْفِ، أُعيدَ ذلك الحَرْفُ المعطوف نحو : امرر بزيدٍ وغداً بِعَمْرو، وهذه الشَّواهدُ لا دَليلَ فيها.
أمَّا « في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة »، وقوله ﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ يس : ٩ ]، فلأنه عطف على شَيْئَيْنِ : عطف الاخرة على الدُّنْيَا بإعَادَةِ الخافض وعطف حسنة الثانية على حَسَنة الأولى، وكذلك عطف « من خلفهم » على « من بين أيديهم » و « سدَّا » على « سدَّا »، وكذلك البيت عطف فيه « أديمها » على المفعول الأوَّل ل « تَرَاها »، و « نَغلاً » على الثاني وهو كشبه و « يوماً » الثَّاني على « يَوْماً » الأوَّلِ، فلا فصل فيه حينئذٍ، [ وحينئذ ] يقال :[ ينبغي ] لأبي عَلِيٍّ أنْ يمنعَ مطلقاً، ولا يستثنى الضَّرُورَةَ، فإن ما استشهده به مُؤوَّل على ما ذكرناه.
فإن قيل : إنَّما لم يجعله أبُو عَلِيّ من ذلك؛ لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تخصيص الظَّرْفِ الثَّاني بما وقع في الأوَّلِ، وهو أنَّه تراها كشبه أردية العصب في اليوم الأوَّلِ والثاني؛ لأنَّ حُكْمَ [ المعطُوف حكم ] المعطوف عليه، فهو نَظِيرُ قولك : ضَرَبْتَ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ، ويوم السَّبْت، ف « يَوْمَ » السَّبْت مُقيّدٌ بضرب [ زيد كما يُقَيَّدُ به يَوْمَ الجٌمعة، لكن الغَرَضَ أنَّ اليومَ الثَّانِي في البيت مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ آخر ] وهو رُؤيَةُ أديمها نغلاً.
فالجوابُ : أنه لو تركنا [ و ] الظَّاهر من غير تَقْييدِ الظّرف الثَّاني بمعنى آخر كان الحكم كما ذكرت [ لأن الظاهر كما ذكرت ] في مثالك : ضربت زيداً يوم الجُمعَةِ [ وعَمراً ] يَوْمَ السَّبْتِ [ أما إذا قيَّدته بشيءِ آخر، فقد تركت ذلِكَ الظَّاهِرَ لهذا النص، ألا تَرضاكَ تَقُولُ : ضربتُ زيداً يَوْمَ الجُمْعَة، وعمراً يوم السَّبت ]، فكذلك هَذَا، وهو مَوْضِعٌ يحتاجُ لِتَأمُّلِ.


الصفحة التالية
Icon