فإن قيلَ : المُرَادُ ب ﴿ َأُوْلِي الأمر ﴾ الخُلَفاء الرَّاشِدُون، او أمَرَاءُ السَّرايا أو العُلَماء المُفْتُون في الأحْكَامِ الشَّرعيَّة، أو الأئمَّةُ المعْصُومون عند الرَّوَافِضِ، فالقَوْلُ الذي اخْتَرْتُمُوهُ خارجٌ عن أقْوَالِ الأمَّة فيَكُون بَاطِلاً، أو تُحمَلُ الآيةُ على الأمَرَاءِ والسَّلاطين؛ لنفوذ أمرهم في الخَلْقِ، بخلاف أهل الإجْمَاع؛ ولقوله -عليه السلام- :« مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطَاعَ الله، [ ومَنْ أطاعَ أمِيرِي فَقَدْ أطَاعَنِي ]، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، ومَنْ عَصَى أمِيري فَقَدْ عَصَانِي ».
فالجواب عن الأوَّل : أنَّ جماعةً من الصَّحابَة والتَّابعين حَمَلُوا « أولي الأمر » على العلماء، فليْسَ قولُنَا خَارِجاً عَنْهُم.
وعن الثَّاني : أنَّ الوُجُوه التي ذكرُوهَا ضَعِيفَةً، لا تعارض بالبُرْهَانِ القَاطِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مع أنَّهَا مُعَارَضَة بوجوهٍ :
الأوَّل : أنَّ طاعَة الأمَراءِ إنَّما تَجِبُ فيما عُلِمَ بالدَّلِيلِ أنَّهُ حَقٌّ، وذلِك الدَّلِيلُ هُو الكِتَابُ والسُّنَّةُ؛ ليكُون هذا داخلاً في طَاعَةِ الله [ ورسُولِهِ ] كما أنَّ الوالِدَيْن والزَّوْج، والأستاذِ داخِلٌ في ذَلِكَ، وإذا حَمَلْنَاهُ على الإجْمَاعِ، لم يَدْخُل في ذلك؛ لأنَّهُ ربما ثبت بالإجْمَاعِ حكم ولا دليل في الكتاب والسُّنَّة عليه فَكَانَ أوْلَى.
الثاني : أنَّ طاعَة المَرَاءِ إنما تَجِبُ إذا كانُوا على الحّقِّ فطاعتهم مَشْرُوعة بالاسْتَقَامَةِ.
الثالث : قوله :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ ﴾ يُشْعِر بإجْمَاعٍ تَقَدَّمَ، وحدث بَعْدَه التَّنَازُع.
الرابع : أنَّ طاعَةَ [ أهْل ] الإجْمَاعِ واجبَةٌ قَطْعاً، [ وأمَّا طاعَة ] الأمَرَاء والسَّلاطين فغير وَاجِبَةٍ قَطْعاً، بل الأكْثَر تكون مُحَرَّمة؛ لأنهم لا يَأمُرون إلاَّ بالظُّلْم، وفي الأقل تكون وَاجِبَةً [ لهذا كَانَ حَمْل الآيَةِ على الإجْمَاعِ أولى ].
الخامس : أوامِرُ السَّلاطِين مَوْقُوفَة على فَتَاوى العُلَمَاء؛ فالعُلَمَاءُ في الحَقِيقَةِ أمَرَاء، فَحَمْلُ أولي الأمْرِ عَلَيْهِم أوْلى، وأمَّا حَمْل الرَّوَافِض الآية على الإمَامِ المَعْصُوم، فَيُقَيَّد بما ذُكر من أنَّ طَاعَتَهُم تتوَقَّفُ على مَعْرَفَتهم، والقُدْرَة على الوُصُولِ إلَيْهِم، فَوُجُوبُها قَبْل ذلك تَكْلِيفُ ما لا يُطَاقُ، وأيضاً فَطَاعَتُهُم مَشْرُوطَةٌ وظاهر قوله :﴿ أَطِيعُوا ﴾ يقتضي الإطْلاق، وأيضاً فَقَوْلُه :﴿ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول ﴾ لو كان المُرادُ منه الإمام المَعْصُوم، لقيل : فردُّوهُ إلى الإمَام.
فصل : من المعتبر في الإجماع؟
إذا ثَبَت أن الإجْماع حُجَّة، فاعلم : أن المُعْتَبَر إجْمَاعُهم هُمُ الذين يُمْكِنُهُم استِنْبَاط الأحْكَام الشَّرعيَّة من الكِتَابِ والسُّنَّة، و [ هم ] المُسَمَّون بأهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ، فهم الَّذين يُمْتَثَلُ أمْرُهُم ونَهْيُهُم بِخلاف المُتَكَلِّم، والمُقْرِئ والمُحْدِّث والعَوَامّ لا يُمْكِنُهم الاسْتِنْبَاط.
فصل : لا عبرة في الإجماع بالفرق الضالة
دَلَّت الآيةُ على أنّ العِبْرَة بإجْمَاع المُؤمِنين، فأمَّا من يشكُّ في بإيمانِهِ من سائِرِ الفرقِ فلا عِبْرَةِ بِهِم.
فصل : حصر الأدلة أربعة
دَلَّت [ هذه ] الآيةُ على أنَّ ما سِوَى هذه الأصُولِ الأرْبَعَة، أعني : الكِتَابِ والسُّنَّة والإجْمَاعِ والقياسَ باطِلٌ؛ لأنه -تعالى- جعل الوَقَائِعِ قِسْمَيْن :
أحدهما : مَنْصُوص عليه فأمر فيه بالطَّاعَةِ، بقوله [ -تعالى- ] :﴿ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ ﴾.