فَلَزِمَهُ المُنَافِقِ وقال : انْطلِقْ بَنَا إلى عُمَر، فَصَار إلى عُمَر، فقال اليَهُودِيُّ [ لعمر ] اخْتَصَمْتُ أنَا وهَذَا إلى محمَّدٍ، فقضى [ لي ] عليْهِ، فلم يَرْض بقَضَائِهِ، وزَعَم أنه يُخَاصِم إلَيْكَ، فقال عمر :[ للمُنَافِقِ ] أكذلك؟ قال : نَعَم؛ فقال لهما : رُوَيْدَكُمَا حتى أخْرُجَ إلَيْكَما. فدخَلَ عُمَرُ البَيْتَ وأخذَ السَّيْفَ واشْتَمل عَلَيْه، ثم خَرَجَ، فَضَرَبَ بِهِ المُنَافِقَ حَتَّى برد، وقال : هكذا أقْضِي بَيْن مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاء الله ورسُولِهِ، فنَزَلَت هذه الآية.
وقال جِبْريل -عليه السلام- : إن عُمَر فرّق بين الحقِّ والبَاطِلِ، فَسُمِّي الفَارُوق.
وقال السُّدِّي : كان نَاسٌ من اليَهُود [ قد ] أسْلَمُوا ونَافَقَ بعضُهُم، وكانَتْ قُرَيْظَةُ والنَّضيرُ في الجَاهِليَّة، إذا قَتَلَ رَجُلٌ من بَنِي قُرَيْظَة [ رَجُلاً من بني النضير قُتِل بِهِ، أو أخَذَ ديتهُ مئة وَسْقٍ من تَمْرٍ، وإذا قتل رَجُلٌ من بني النضير رَجُلاً من قُرَيْظة لم يُقْتَل بِهِ ] وأعْطَى ديتهُ سِتِّين وسْقاً، وكانت النَّضِير وهم حُلَفَاءُ الأوْسِ أشْرَف وأكْثَر من قُرَيْظَة، وهم حُلَفَاءُ الخَزْرَج، فَلَمَّا جَاء الإسْلاَمُ، وهاجر النَّبِيُّ ﷺ إلى المَدِينَةِ قَتَل رجُلٌ من النَّضِير رَجُلاً من قُرَيْظَة، فاخْتَصَمُوا في ذَلِكَ، فقال بَنُو النَّضِير : كُنَّا وأنتم اصْطَلَحْنَا على أن نَقْتُل مِنكم ولا تَقْتُلُون مِنَّا، وديتُكُم سِتُّون وَسْقاً، وديَتُنَا مئةُ وَسْقٍ، فنحن نُعْطِيكُم ذَلِك.
فقالت الخَزْرج : هذا شَيْءٌ كنتم فَعَلْتُمُوه في الجَاهِليَّةِ؛ لكَثْرَتِكُم وقِلَّتِنَا فَقَهَرتُمُونا، ونحن وأنْتُم اليَوْم إخوةٌ، ودينُنَا ودِينُكُم وَاحِدٌ، فلا فَضْلَ لكُم عَلَيْنَا، فقال المُنَافِقُون مِنْهم : انْطَلِقُوا بِنَا إلى أبِي بردة الكَاهِن الأسْلمِيّ، وقال المُسْلِمُون من الفَريقَيْن : لا بلْ إلى النَّبيِّ ﷺ، فأبى المُنافِقُونَ فانْطَلَقُوا إلى أبِي ليَحْكُمَ بَيْنَهُم، فقال : أعْطُوا اللُّقْمَة، يعني : الخطر، فقالوا : لَكَ عَشْرَة أوْسُق، فقال : لاَ بَلْ مئة وَسْقٍ ديَتِي، فأبَوْا أن يعطوهُ فوقَ عَشْرَة أوسْق، فأبَى أنْ يَحْكُمَ بيْنَهُم، فأنزَلَ الله - تعالى - آيتي القِصَاص، فدَعَا النَّبيُّ ﷺ الكَاهِن إلى الإسْلامِ فأسْلَمَ، وعلى هذه الرِّوَايَة فالطَّاغُوتُ هو الكَاهِن.
وقال الحَسَن : إن رَجُلاً من المُسْلِمِينِ كان لَهُ على رَجُلٍ من المُنَافِقِين حَقٌّ، فدَعَاهُ المُنَافِقُ إلى وَثَنٍ كان أهْلُ الجَاهِليَّةِ يَتَحَاكَمُون إلَيْهِ، ورَجُلٌّ قائِمٌ يترجَّم الأبَاطيلَ عن الوثَنِ، فالمُرادُ بالطَّاغُوتِ؛ هو ذَلِكَ الرَّجُل، وقيلَ : كانوا يَتَحَاكَمُون إلى الأوْثَانِ، وكانَ طَريقُهم أنهم ] يَضْرِبُونَ القِدَاحَ بِحَضْرَةِ الوَثَنِ، فما خَرَجَ على القِدَاحِ حَكَمُوا بِهِ، وعلى هَذَا فالطَّاغُوتُ الوَثَنِ.
قال أبو مُسْلِم : ظاهر الآيَةِ يَدُلُّ على أنه كان المُخَاصِمُ منافِقاً من أهْلِ الكِتَاب، كان يُظهر الإسْلامَ عَلَى سبيل النِّفَاقِ، لأن قوله - تعالى- :﴿ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ إنما يليقُ بمثل هذا المُنافِقِ.