لما حَكَى عنهم أنَّهم يَخْشَون النَّاسَ عند فَرْضِ القِتَالِ بَكَّتهُم هَهُنَا؛ فقال :﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت ﴾ أي : لا خلاص لكُم من المَوْت، والجِهَاد مَوْتٌ يستعقبه سَعَادة أخْرَوِيَّة، فإذا كان لا بُدَّ من المَوْتِ، فبأن يَقَع على وَجْهٍ يستَعْقِب السَّعَادة الأبَدِيَّة، أوْلى من ألاَّ يكُون كَذَلِكَ.
قوله :﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ ﴾ :« أين » اسْم شَرْك يجزم فِعْلَين، و « ما » زائدة على سَبِيل الجَوَازِ مؤكِّدة لها، و « أين » ظَرْف مَكَان، و « تكونوا » مَجْزومٌ بها، و « يدرككم » : جوابُه.
والجمهُور على جزمه؛ لأنه جواب الشرط، وطلحة بن سليمان :« يدركُكم » برفعه، فخرَّجه المُبَرِّد، على حَذْفِ الفَاءِ، أي : فيدرككم المَوْت.
ومثلُه قول الآخر :[ الرجز ]
١٨٣١- يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ | إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ |
وفي البَيْت تَخْرِيجٌ آخر : وهو أنْ يكُون « يَصْرَعُ » المرفُوعُ خبراً ل « إنك »، والشَّرطُ معترِضٌ بينهما، وجَوَابُه ما دَلَّ عليه قوله :« إنك تصرع » ؛ كقوله :﴿ وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ٧٠ ] وخَرَّجه الزَّمخشري على التوهُّم؛ فإنه قال : ويجُوزُ أن يُقال : حُمِل على ما يَقَع مَوْقعَ « أينما تَكُونوا » وهو « أينما كُنْتُم » كما حُمِل على ما يقع موقع « ليسوا مصلحين » وهو « ليسوا بمصلحين » فرفع كما رفع زهير « ولا ناعب » :[ البسيط ]
١٨٣٢-................................ | يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ |
١٨٣٣- وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ يَقُولُ | ................................... |
« ولو كنتم » قالوا : هي بِمَعْنى :« إنْ » وجوابُها مَحْذُوف، أي : لأدْرَكَكُمْ، وذكر الزَّمَخْشري فيه قَوْلاً غَرِيباً عن عِنْدَ نَفْسِه، فقال :« ويجوزُ أن يَتَّصِل بقوله :﴿ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ أي : لا تُنْقَصُون شيئاً مِمَّا كُتِب من آجَالِكُم أيْنَمَا تَكُونوا في مَلاَحمِ حُروبٍ أو غيرها، ثم ابتدأ بِقَوله :﴿ تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾، والوَقْفُ على هذا الوَجْه على ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ ﴾ انتهى.
ورَدَّ عليه أبو حيَّان، فقال : هذا تَخْريجٌ ليس بِمُسْتَقيمٍ، لا من حيث المعنى ولا من حيث الصِّنَاعةِ النَّحوية :
أمَّا من حَيْثُ المعنى : فإنه لا يُناسِبُ أن يكون مُتَّصلاً بقوله :﴿ لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ ؛ لأنَّ انتفاءَ الظُّلْم ظاهِراً إنما هو في الآخرة؛ لقوله -تعالى- :﴿ قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى ﴾.