وثانيها : أن العَبْد لو قَدَر على تَحْصِيل الكُفْرِ، فالقُدْرَة الصَّالِحة لإيجَادِ الكُفْر : إمَّا أن تكُون صَالِحة لإيجَادِ الإيمان، أو لا، فإن كانت صَالِحَةً لإيجَادِ الإيمانِ، [ فحينئذٍ ] يَعُود القول في أنَّ إيمان العَبْدِ مِنْهُ، [ وإن لَمْ تَكُنْ صَالِحةٌ لإيجَادِ الإيمَانِ، فيكُونُ القَادِر على الشَّيْءِ غير قَادِر على ضِدَّه، وذلك عندهُم مُحَالٌ؛ فثبت أنَّهُ لَمْ يَكُنْ الإيمَان مِنْه، وجَب ألاّ يكُونَ الكُفْر مِنْهُ ].
وثالثها : أنَّه لمَّا يكُن العَبْد مُوجداً للإيمَانِ فبأن لا يكون موجداً للكفر أوْلى؛ وذلك لأنَّ المُسْتَقِلَّ بإيجَادِ الشَّيْءِ هو الَّذي يُمْكِنُه تَحْصِيلُ مُرَادِهِ، ولا نَرَى في الدُّنْيَا عَاقِلاً، إلاَّ يُريدُ أن يكُون الحَاصِل في قَلْبهِ هو [ الإيمان والمَعْرِفَة والحقّ، وإن أحداً مِنِ العُقَلاء لا يُرِيدُ أن يكُونَ الحَاصِلُ في قلبه هو ] الجَهْل والضَّلال والاعْتِقاد المُطابق، وَجَب إلاَّ يتحصَّل في قَلْبه إلاَّ الحَقَّ، وإذا كَانَ الإيمانُ الَّذي هو مَقْصُوده ومَطْلُوبه ومُرَادُه، لم يقع بإيجادِه، فبأن يكُون الجَهْلُ الَّذِي لم يُرده وما قَصَد تَحْصيله، وهو في غَايَة النَّفْرَة [ عَنْهُ ] غير وَاقِع بإيجَادِه أوْلَى، وأما الجَوَابُ عن احْتجاجه بقوله :﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ فَمِنْ وَجْهَيْن :
الأوَّل : أنَّه -تعالى- قال حكاية عن إبْراهيم -عليه السلام- :﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [ الشعراء : ٨٠ ]، أضاف المرَض إلى نَفْسِهِ، والشِّفَاء، وإنما فصل بَيْنَهُمَا رِعَايةً للأدَبِ، فكذا يَقْدَح ذَلِك في كونه -تعالى- خَالِقاً للمَرَضِ والشِّفَاء، وإنما فصل بَيْنَهُمَا رِعَايةً للأدَبِ، فكذا ههنا؛ فإنه يُقَالُ : يا مُدَبِّر السَمَوات والأرْضِ؛ ولا يُقالُ :« يا مدبِّر القَمْل والصِّبيان والخَنَافِس.. » فكذا ههنا.
الثاني : قال أكثر المُفَسِّرين في قَوْل إبْراهيم -عليه السلام- :« هذا رَبِّي » إنه ذَكَر هذا اسْتِفْهَاماً على سَبِيل الإنْكَارِ؛ كما قدمناه فكذا هَهُنَا؛ كأنَّهُ قِيلَ : الإيمَان الَّذِي وقع على وَفْقِ قَصْدِه، قد بَيَّنَّا أنَّه ليس وَاقِعاً مِنْهُ، بل من الله -تعالى- فهذا الكُفْر [ ما ] قَصَدَهُ، وما أرَادَهُ، وما رَضِي به ألْبَتَّةَ، فكيف يَدْخُل في العَقْل أن يُقال إنَّه وقع بِهِ. د
وأما قِرَاءة :« فمن نفسك » فنَقُول : إن صح أنه قرأ بها أحدٌ من الصَّحَابَة والتَّابِعين، فلا طعن فيه، وإن لم يَصِحَّ ذلك، فالمراد أن من حَمَل الآية على أنَّها وردتْ على سَبِيل الاستفهام على وَجْه الإنْكَارِ، قال : لأنَّه لما أضاف السيئة إلَيْهم في مَعْرض الاسْتِفَهَام على سَبيلِ الإنْكَارِ، كان المُرادُ أنَّها غير مُضَافةٍ إليهم، فذكر [ قوله ] :« فمن نفسك » كقولِنَا : إنه استِفْهَامٌ على سَبيلِ الإنْكَارِ.


الصفحة التالية
Icon