وقيل : هم العرنيون : وقال ابْن زَيْد : نزلت في أهل الإفكِ، وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة : هم قَوْمٌ أسْلَمُوا بمكَّة ثم لم يُهَاجِرُوا وكانُوا يُظَاهِرُون المُشْرِكين، فاختلف المُسْلِمُون فيهم وتشاجروا، فنزلت :« فما بالكم » يا معشر المؤمنين ﴿ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ ﴾ أي : صرتم فيهم فئتين، ﴿ والله أَرْكَسَهُمْ ﴾ أي : نكَّسَهُم ورَدَّهم إلى الكُفْرِ وأحْكَامه من الذُّلِّ والصِّغَار والسَّبْي والقَتْل.
قال الحسن : وإنما سَمَّاهم مُنَافِقِين وإن أظْهَرُوا الكُفْر؛ لأنهم وُصِفُوا بالصِّفَةِ التي كَانُوا عَلَيْهَا من قَبْل.
قوله :﴿ والله أَرْكَسَهُمْ ﴾ مبتدأ وخبر، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنها حالٌ، إمَّا من المُنَافِقِين -وهو الظَّاهِرُ-، وإمَّا من المُخَاطبين، والرابطُ الواوُ، كأنه أنكرَ عليهم اختلافهم في هؤلاء، والحالُ أنَّ الله قد ردَّهم إلى الكُفْر.
والثاني : أنها مُسْتَأنفةٌ أخبر -تعالى- عنهم بذلك. و « بما كسبوا » مُتَعَلِّقٌ ب « أركسهم » والبَاءُ سَبَبِيَّة، أي : بسبب كَسْبِهِم، و « ما » مصدريَّةٌ أو بمعنى الَّذِي، والعائدُ مَحْذُوفٌ على الثَّانِي، لا على الأوَّلِ على الصَّحِيح.
والإركاس : الردُّ والرَّجْعُ، ومنه الرِّكْس، قال -عليه السلام- في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها :« إنها ركس ». وقال أمَيَّة بن أبِي الصَّلت :[ البسيط ]

١٨٥٦- فَأرْكِسُوا في جَحِيمِ النَّارِ إنَّهُمُ كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الإفْكَ وَالزَّورَا
أي : رُدُّوا، وقال الرَّاغِب :« الرِّكْس والنِّكْس : الرَّذْلُ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ؛ لأن النِّكْسَ : ما جُعِل أعلاه أسْفَله، والرِّكْسَ : ما صَارَ رَجِيعاً بعد أن كَانَ طعاماً ».
وقال النَّضْر بن شميل والكَسَائي : الرَّكْس والنِّكْس : قلب الشَّيْء على رَأسِه، أو رَدِّ أوَّلِهِ على آخِره، والمَرْكُوس والمنكُوسُ وَاحِدٌ.
وقيل : أرْكسه أوْبقَه، قال :[ المتقارب ]
١٨٥٧- بِشُؤْمِكَ أرْكَسْتَنِي فِي الخَنَا وأرْمَيْتَنِي بِضُرُوبٍ الْعَنَا
وقيل : الإركاس : الإضلال، ومنه :[ المتقارب ]
١٨٥٨- وأرْكَسْتَنِي عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى وصَيَّرتَنِي مَثَلاً لِلْعِدَى
وقيل : هو التنكيسُ، ومنه :[ الرمل ]
١٨٥٩- رُكِّسُوا في فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوهَا فِتَنْ
وارتكَس فُلانٌ في أمْر كَانَ، أي : نَجَا مِنْهُ والرُّوكُوسِيَّةُ : قوْمٌ بين النَّصَارى والصَّابِئِين، والرَّاكِس : الثَّور وسْط البَيْدَر والثيران حوالَيه وقت الدياس.
ويقال : أرْكس ورَكَّس بالتَّشْدِيد ورَكَّس بالتَّخْفِيف : ثلاث لُغَات بمعنى واحد، وارتكَس هو، أي : رجع.
وقرأ عبد الله :« ركسهم » ثلاثياً، وقرئ « ركَّسهم -ركَّسوا » بالتشديد فيهما.
وقال أبو البقاء :« وفيه لُغَةٌ أخرى :» ركسه الله « من غير همز ولا تشديد، ولا أعلم أحَداً قرأ به ».
قلت : قد تقدَّم أن عبد الله قَرَأ « والله ركسهم » من غير همز ولا تشديد [ ونقل ابن الخطيب أنَّها قراءة أبيِّ أيْضاً ] وكلام أبي البَقَاءِ مُخْلِّصٌ؛ فإنه إنما ادَّعى عَدَمَ العلمِ بأنَّها قِرَاءةٌ، لا عدمَ القراءة بها.


الصفحة التالية
Icon