قوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ التَّسْليط في اللغة مأخوذ من السَّلاطة؛ وهي الحدَّة، والمقصود : أنَّ الله تعالى منَّ على المُسْلِمين بِكَفِّ بَأسِ المُعَاهِدِين.
قال [ بعض ] المفسِّرين : معنى الآية : أن القَوْم الَّذين جَاءوكُم بنو مُدْلج، كانوا عَاهَدُوا ألاَّ يُقَاتِلُوا المُسْلِمين، وعاهَدُوا قُرَيْشاً ألاَّ يقاتِلُوهم وحصرَت : ضاقَتَ صُدُورُهُم، ﴿ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ أي : عن قتالِكُم للعَهْد الذي بَيْنَكُم، ﴿ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ يعني : مَنْ أمِنَ منهُم، ويجُوز أن يكُون مَعْنَاه : أنَّهم لا يُقَاتِلُونَكُم مع قَوْمِهِم، يعني : قُرَيشاً قد ضاقَتَ صُدُورُهم لِذَلِك.
وقال بَعْضُهم :« أو » الوَاوِ؛ كأنه قال : إلى قَومٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم مِيثَاقٌ، جاءُوكُم حصرت صُدورُهم عن قَتَالِكُم والقشتَال مَعَكُم وهم -قَومُ هلالٍ- الأسْلميُّون وبنو بكر، نهى الله -سُبْحَانَهُ- عن قتل هؤلاء المُرْتَدِّين إذا اتَّصَلُوا بأهل عَهْدٍ للمُؤمِنين؛ لأن من انْضَمَّ إلى قَوْمٍ ذَوي عَهْد فله حُكْمهم في حَقْن الدَّمِ.

فصل


المَعْنَى : أن ضيق صدورهم عن قِتَالِكُم؛ إنَّما هو لأن الله -تعالى- قَذَفَ الرُّعْب في قُلُوبِهِم، ولو أنه -تعالى- قَوَّى قُلُوبَهُم على قِتَال المُسْلِمِين، لتَسَلَّطُوا عليهم، وهذا يدُلُّ على أنَّه لا يَصِحُّ من الله تَسْلِيط الكَافِر على المُؤمِن وتَقْويته [ عَلَيْه ].
وأجاب المُعْتَزِلَةُ بوجهين :
الأول : قال الجُبَّائِي : قد بينَّا أنَّ الَّذِين اسْتَثْنَاهُم الله -تعالى- قومٌ مؤمِنُون لا كَافِرُون، وعلى هذا فَمَعْنَى الآيَة : ولو شَاءَ الله لَسَلَّطهم عليكم بِتَقْوية [ قُلُوبِهِم ] ليدْفَعُوا عن أنْفُسِهِم، إن أقدمتم على مُقَاتَلتِهِم على سَبيل الظُّلْمِ.
الثَّاني : قال الكَلْبِي : إنه -تعالى- أخبر أنَّه لو شاء لَفَعَل، وهذا لا يُفِيدُ إلاَّ أنه -تعالى- قَادِرٌ على الظُّلْم، وهذا مَذْهَبُنَا، إلا أنَّا نقول : إنه -تعالى- لا يَفْعَلُ الظُّلْمَ.
قوله :« فلقاتلوكم » اللام جَوَاب « لو » على التَّكْرِيرِ أو البَدَلِيَّة، تقديره : ولَوْ شَاءَ الله لِسَلَّطَهُم عليكم، ولو شَاءَ الله لَقَاتَلُوكُم.
وقال ابن عطيّة : هي لامُ المُحَاذَاة والازْدِوَاجِ بِمَثَابَة الأولَى، لو لم تَكن الأولى كنت تقول :« لقاتلوكم ». وهي تَسْمِيةٌ غريبة، وقد سَبَقَهُ إليها مَكِّي، والجُمْهُور على :« فلقاتلوكم » من المُفاعَلة. ومُجَاهِد، وجماعة :« فلقتَّلوكم » ثُلاثياً، والحَسَن والجَحْدَري :« فلقتَّلوكم » بالتَّشديد.
قوله :« فإن اعتزلوكم » أي : فإن لم يتعرضوا لكم لقتالكم، وألْقُوا إليْكُم السَّلَم، أي : الانقياد والاستسلام وقرأ الجَحْدَرِي :« السَّلْمَ » بفتح السِّين وسُكُون اللام، وقرأ الحسن بِكَسْر السِّين وسكون اللام ﴿ فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴾ أي : طريقاً بالقَتْل والقِتَالِ.
[ قوله :﴿ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴾ « لكم » متعلِّق ب « جعل »، و « سبيلاً » مَفْعُولُ « جعل »، و « عليهم » حالٌ من « سبيلا » ؛ لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها، ويجُوز أن تكونَ « جعل » بمعنى « صير »، فيكون « سبيلا » مَفْعُولاً أوّلَ، و « عليهم » مَفْعُولٌ ثانٍ قُدِّم ].
قال بعضهم : هذه الآية منْسُوخة بآية السَّيْف، وهي قوله :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ [ التوبة : ٥ ]، وقال آخرون : إنَّها غير مَنْسُوخة، أمَّا الَّذِين حملوا الاسْتِثْنَاء على المُسْلِمين، فهو ظاهِرٌ على قولهم، وأمَّا الذين حَمَلُوه على الكَافِرِين؛ فقال الأصَمُّ : إذا حَمَلْنَا الآية على المُعَاهدين، فَكَيْفَ يمكن أن يُقَال إنها مَنْسُوخَةٌ.


الصفحة التالية
Icon