قوله- تعالى- « درجات » فيه سِتَّة أوجه :
الأربعة المذكورة في « دَرَجَة ».
والخامس : أنه بدلٌ من « أجْراً ».
السادس ذكره ابن عَطِيَّة أنه منصوبٌ بإضْمَار فعلٍ، على أن يكون تَأكِيداً للأجْرِ، كما تقول :« لك عليَّ ألفُ دِرْهَمٍ عُرْفاً » كأنك قُلْت : أعْرِفُها عُرْفاً، وفيه نظر، و « مغفرة ورحمة » عطف على « دَرَجَاتٍ »، ويجُوز فيهما النَّصْب بإضْمَار فِعْلِهِمَا [ تَعْظِيماً ]، أي : وغَفَرَ لهم مَغْفِرَةً، ورحِمَهُم رَحْمَةً.
فأن قيل : إنه - تعالى- لِمَ ذَكَرَ أولاً « دَرَجَة » وهَهُنَا « دَرَجَاتٍ » ؟
فالجواب من وُجوه :
أحدها : ليس المُراد بالًَّدرجة الوَاحِدَةَ بالعَدَدِ، بل الوَاحِدِ بالجِنْسِ، فيدْخُل تحته الكَثير بالنَّوْعِ.
وثانيها : أن المُجَاهِد أفضَل [ بالضَّروُرة ] من القَاعِد المَضْرُور [ بدرجَةِ ] ومن القَاعِدِ الصَّحيح [ بدَرَجَات ] وهذا على القَوْل بعدم المُسَاواةِ بينَ المُجَاهِدِين والأضِرَاءِ.
وثالثها : فضَّلَ المُجَاهِدين في الدُّنَيَا بدرجَة واحدة، وهي الغَنِيمَة، وفِي الآخِرة بدرجَات كَثيِرة في الجَنَّة.
ورابعها : أن المُراد ب « المُجَاهِدين » في الأولى : المُجَاهِدِين بأمْوَالِهِم وأنفُسِهِم، وههنا المراد ب « المُجَاهِدين » : من كان مُجَاهِدَاً على الإطْلاق في كُلِّ الأمُور، وأعنِي : في عمل الظَّاهِرِ؛ كالجهاد بالنفس والمَالِ والحج، وعلى العباداتِ كُلِّها، وفي أعْمَال القلُوب وهو أشرف أنْوَاعِ الجِهَاد؛ لأنه صَرْف القَلْبِ من الالْتِفَات إلى غَيْر الله إلى الاستغَراقِ في طَاعَةِ الله.
فصل
ذكر المفسِّرون معنى « الدرجات ».
قال ابن جبير في هذه الآيةِ هي سَبْعُونَ دَرَجَة، ما بَيْن كل دَرَجَتَيْن عَدْو الفَرَسِ الجَوَادِ المضمر سَبْعين خريفاً. وقيل : الدَّرَجَاتِ هي الإسْلام والهِجْرَةِ والجِهَادِ والشَّهَادَة، فاز بها المُجَاهدُِون.
فصل : في حكم الجهاد
والجهاد في الجُمْلَةِ فَرضٌ، غير أنه يَنْقَسِم إلى فَرْضِ العَيْنِ وفَرْضِ الكِفَاية، ففرض العَيْنِ أن يَدْخُلَ العَدُوُّ دارَ قوم من المُؤمِنِيِن، فيجب على كُلِّ مكَلَّفِ من الرِّجَالِ ممن لا عُذْرَ له مِنْ أهْلِ تلك البَلْدَةِ الّخُرُوج إلى عَدِّهم، حراً كان او عبداً، غنياً كان أو فقيراً، دفعاً عن أنفسهم وعن جِيِرانِهِم، وهو في حَقِّ من بَعُد مِنْهُم من المُسْلِمين عَوْنُهم، وإن وقعت الكِفَايَة بالنَّازِِلين بهم، فلا فرضَ على الأبْعَدين، ولا يَدْخُل في هذا القِسْم العَبيد والفُقَراء، فإذا كان الكُفَّار قَادِرِين في بِلادهم، فعلى الإمَام ألا يُخَلَّي كلَّ سَنَة عن غَزْوَة يغزوها بِنَفْسِه أو بسَراياه، حتى لا يكُون الجِهَاد مُعَطلاً.
فصل : رد شبهة الشيعة
قال الشِّيعة : عَلِيُّ كان مِن المُجَاهِدِين، وأبو بكر من القَاعِدِين، فيكون عَلِيٌّ أفْضَل، للآية، فيُقَالُ لهم : مباشَرَة علي للقِتَالِ أكثر مُبَاشَرَةً من النَّبِيِّ ﷺ، فيكون أفْضَل منه، وهذا لا يَقُولُه عَاقِلٌ، فإن قالوا : جِهَاد النَّبِي ﷺ لأنه في إظْهَارِ الدِّين بتَقْرير [ الأدلة ] قُلْنَا : وكذلك أبُو بَكْر، سعى في إظْهَارِ الدِّين في أوّل الإسْلام وضَعْفِه، وجِهَاد عَلِيَّ كان وهو في الدِّين بعد ظُهُور الإسْلام وقُوَّتِه، والأوّل أفضل، وأيضاً : فجهَاد أبِي بكر كان بالدَّعْوَةِ إلى الدِّين، وأكثر أفاضل العَشْرَة أسْلَمُوا على يَدِهِ، وذلك حِرْفَة النَّبِي ﷺ وجهاد عَلِيٍّ كان بالقَتْل، والأوّل أفضل.