لما رَغَّبَ في الهِجْرَةِ، ذكر السَّبَب الذي يَمْنَع الإنْسَان من الهِجْرَة ثم أجَابَ عَنه، وذلك المَانِعُ أمْرَان :
الأوّل : أن يكون في وَطَنِه في راحةٍ وَرَفَاهِية فيظن لأنه بِمفَارَقَتِه للوَطَن يقع في الشِّدَّة وضيق العَيْش، فأجاب الله عن ذلك بقوله :﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ﴾.
قال القرطبي : قوله :﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ شرط، وجَوَابُه :﴿ يَجِدْ فِي الأرض ﴾.
واشتِقاق المُرَاغَم من الرغَام وهو التُّرَاب؛ يقولون : رغم أنفه، ويريدون أنه وَصَل إلى شَيْء يَكْرَهُه؛ لأن الأنْفَ لا يجد ذلك [ البَلَد ] من النِّعْمَة والخَيْر، ما يكون سَبَباً لرغم أنفِ أعدَائِه الَّذِين كَانُوا معه في بلدته الأصْلِيّة، فإنه إذا اسْتَقَام حَالُه في تِلْكَ البَلَد الأجْنَبِيَّة، وَوَصَل خَبَرُه إلى أهْل بَلْدَتِه، خجلوا من سُوءِ معامَلَتِهم له، وزعمت أنُوفُهم بذلك وَهَذَا أوْلَى الوُجُوه.
وأمَّا المَانِعِ الثاني عن الهجرة : فهو أن الإنْسَان يَقُول : إن خَرَجْت عن بَلَدِي لطلب هذا الغَرَضِ، فربما وَصَلْتُ إليه، وربَّما لم أصِلْ إليه، فالأولى ألا أُضِيعَ الرَّفَاهِيَة الحَاضَرة بسبب طَلَبِ شَيء قد يَحْصُل، فأجَابَ الله - تعالى- عن ذَلِك بقوله :﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله ﴾.
والمراد ب « السِّعَة » : سعة الرِّزْق، وقيل : سَعَة من الضَّلال إلى الهُدَى.
قوله - تعالى- :﴿ وَمَن يَخْرُجْ [ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ ].
روي أنه لما نَزَلَت هذه الآيَةِ، سَمِعَهَا رجلٌ من بَنِي لَيْث شَيْخٌ كبير مَرِيضٌ يقال له : جُنْدَعُ بن ضَمْة، فقال : والله ما أنَا ممَّن استَثْنَى الله - تعالى-، وإني لأجِدُ حِيلَة، ولي من المَالِ ما يُبَلِّغُنِي المَدينَةَ وأبعد مِنْهَا، والله لا أبِيتُ اللَّيلة بمكَّة، أخرِجُوني، فخرجوا به يَحْمِلُونَه على سَرير حتى أتَوْا به التَّنْعِيم، فأدركه المَوْت، فصفَّق بيمِينِه على شِمَالِه، فقال : اللَّهُم هذه لك وهذه لِرَسُولِك، أبَايعُك على ما بَايَعَك عليه رَسُولُك، فمات فَبَلَغَ خَبَرُه أصْحَابَ رسُول الله ﷺ، فقالوا : لو وَافَى المَدِينَة لكان أتمَّ أجْراً. وضَحِكَ المُشْرِكُون وقالوا : ما أدْرَك هذا ما طَلَب، فأنْزَلَ الله تعالى- :﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت [ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله ﴾ ] أي : قبل بُلُوغه إلى مهاجره، « فقد وقع أجْرُه على الله ». أي : وجَب بإيجَابِه على نفسه فَضْلاً مِنْه.

فصل


قال بَعْضُهم : إن من قَصَد طاعَةً وعجز عن إتْمَامِهَا، كتب الله ثَوابَ تِلْكَ الطَّاعَة؛ كالمرِيض يَعْجَزُ عما كان يَعْمَلُه في حال صِحَّتِه من الطَّاعَة، فيكتب الله [ له ] ثواب ذلك العَمَل؛ هكذا رُوِي عن النَّبِي ﷺ.


الصفحة التالية
Icon