يريد :« لم أضْرِبْه » بسكون البَاء للجَازِم، ثم نَقَل إليها حَرَكَة الهاءِ، فصار اللَّفْظُ « ثم يُدْرِكُهْ » ثم أجْرََى الوصْلَ مُجْرى الوَقْفِ، التقى ساكنان، فاحْتاجَ إلى تَح~رِيك الأوَّلِ وهو الهَاءُ، فَحَرَّكها بالضَّمِّ؛ لأنه الأصلُ، وللإتباع أيضاً.
ثمَّ قالَ الله - تعالى- :﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ أي : ويَغْفِرُ [ الله ] ما كَانَ مِنْهُ [ مِنِ القُعود ] إلَى أنْ خَرَجَ.

فصل


قال ابن العَرَبِيَّ : قَسَّمَ العُلَمَاءُ الذِّهَاب في الأرْض [ إلى ] قسمين : هَرباً، وطلباً.
والأول ينْقَسِم سِتَّة أقْسَام :
أحدها : الهِجْرَة : وهي الخُروج من دَارِ الحرب إلى دَار الإسْلام، وكانت فَرْضَاً في أيَّام النَّبِيِّ ﷺ، وهذه الهِجْرَةِ باقيةٌ مفروضَةىٌ إلى يَوْمِ القِيَامَة، والَّتِي انقطعت بالفَتْح : حي القَصْد إلى النبي ﷺ حَيْثُ كَانَ، فإنْ بَقِيَ في دَارِ الحَرْب، عصى ويختلف في حَالِه.
وثانيها : الخُرُوج من أرْض البِدْعَة؛ كما تقَدَّم نَقْلُه عن مالك؛ فإنه إذا لم يَقْدِر على أزَالة المُنْكَر يَزُولُ عَنْهُ، قال [ الله ] - تعالى- :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ].
وثالثها : الخُرُوج من أرض غلب عليها الحرامُ؛ لأن طَلَبَ فَرْضٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ.
ورابعها : الفِرَار من الأذِيَّة في البَدَن، وذلك فَضْل من الله ورُخًصَةٌ؛ كما فَعَلَ إبْراهيم - ﷺ - لمَّا خَاف من قَوْمِه وقال :﴿ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي ﴾ [ العنكبوت : ٢٦ ]، وقال :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [ الصافات : ٩٩ ]، وقال - تعالى- حكاية عن موسى- ﷺ :﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ ﴾ [ القصص : ٢١ ].
وخامسها : خَوْف المَرَضِ في البلاد الوَخْمَة، فيخرج إلى أرْضِ النزهة؛ لأن النِّبي ﷺ أذن للرُّعاة حين استَوْخَمُوا المدينة، أن يَخْرُجُوا إلى المَسْرَح فيكونوا فيه؛ حتى ما يَصحُّوا، وقد استُثْني من ذلك الخُروُج من الطَّاعُون، بِمَا في الحَدِيث الصَّحيح.
وسادسها : الفِرَار خَوْف الأذِيَّة في المَالِ، فإن حُرْمة مال المُسْلِم؛ كَحُرْمَة دَمِه.
وأما الطَّلَبُ فينقسم قِسْمَيْن :
طلب دِين وطَلَب دُنْيَا.
فأمَّا طَلَب الدِّين فينقسم إلى تِسْعَةِ أقْسَام :
الأول : سَفَر العِبْرة، قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ [ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ] [ الروم : ٩ ].
يقال : إنَّ ذا القَرْنَيْنِ إنَّما طَافَ الأرْضَ؛ ليرى عَجَائِبَهَا، وقيل : ليُنْفِذَ الحَقَّ فيها.
الثاني : سفر الحَجِّ، فالأوَّل نَدْب، وهذا فَرْضٌ.
الثالث : الجهاد [ وله أحكامُه ].
الرابع : سَفَر المعاش؛ إذا تَعَذَّر على الرَّجُل مَعَاشُه مع الإقامة، فيخرج في طَلَبِه لا يزيد عَلَيْه؛ من صَيْد، أو احتِطَابٍ، أو احتشَاسٍ، فهو فَرْضٌ عَلَيْه.
الخامس : سَفَر التِّجَارة والكَسْب الزَّائِد على القُوتِ، وذلك جَائزٌ بفضل الله تعالى؛ قال -تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٨ ] يعني : التِّجَارة، وهو نَعْمَة مَنَّ الله بِهَا في سَفَر الحَجِّ، [ فكيف إذَا انْفَرَدَتْ ].
السَّادس : طلب العِلْم.
السَّابِع : قصد البِقَاع الشَّرِيفة؛ قال- ﷺ :« لا تُشَدُّ الرِّحَال إلاَّ إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِد ».
الثَّامن : الثُّغُور للر!ِبَاط بها.
التاسع : زيارة الإخْوَان في الله - تعالى-؛ قال - ﷺ :« زارَ رجُلٌ أخاً لَهُ في قَرْيَة، [ فأَرْصَدَ الله له مَلَكَاً على مدرجته، فقال : أيْن تُرِيدُ، قال : أريد أخاً لِي في هَذِهِ القَرْيَة ]، فقال : هل له عَلَيْكَ من نِعْمَةٍ تَرُّبُّها عَلَيْه، قال : إني أحْبَبْتُه في الله، قال : فإني رسُول الله إلَيْك، بأنَّ الله قد أحَبَّك كَمَا أحْبَبْتَهُ فيه » [ رواه مسلم، وغيره ].


الصفحة التالية
Icon