وقال الجُمْهُور : إن السَّفر مات لم يتقدَّر مَخْصُوصٍ، لم تَحْصُل فيه الرُّخْصَة، وقالوا : أجْمَع السَّلَف على أنَّ أقَل السَّفِر مقدَّرٌ، لأنه رُوِيَ عن عُمَر أنَّه يَقْصِر في يَوْم تامٍّ؛ وبه قَالَ الزُّهرِي والأوْزَاعِيُّ.
وقال ابْن عَبَّاس : يَقْصرُ إذا زَادَ علي يَوْم ولَيْلَة.
قال أنَس : المُعْتَبَر خَمْسَة فَرَاسِخ، وقال الحَسَن : مَسِيرة لَيْلَتَيْن.
وقال الشَعْبِي، والنَّخعِي، وسعيد بن جُبَيْر : من الكُوفَة إلى المَدَائِن مسيرة ثلاثةَ أيّام، وهو قول أبِي حَنِيفَة، وروى الحَسَن بن زِيَاد، عن أبي حنيفة : أنَّهُ إذا سَافَر إلى موضع يكون مَسيرة يَوْمَيْن، وأكثر اليوم الثَّالِث، جاز القَصْر، وهكذا رَوَاهُ ابن سماعة، عن أبِي يُوسُف ومحمَّد.
وقال مَالِكٌ : أمْيَال هَاشِم جَدَّ رسُول الله ﷺ، وهو الذي قدَّر أمْيَال البَادِية؛ كل ميلٍ اثْنَا ألف قدم، وهي أرْبَعَةٌ آلاف خطوة، فإن كل ثَلاثَة أقْدَام خُطْوة، قالوا : واختِلاَف النَّاس يدل على انْعِقَاد الإجْمَاع، على أن الحُكْمَ غير مَرْبُوط بِمُطْلَق السَّفَر.
قال أهل الظاهر : اضْطِرابُهم يَدُلُّ على أنَّهم لم يَجِدُوا دَلِيلاً في تَقْدِير المُدَّة، إذ لو وَجَدُوه لما حَصَل الاضْطِرَاب، وأما سُكُوت [ سَائِر ] الصَّحَابَة؛ فلعلَّه كان لاعْتِقَادِهم أنّ الآية دَالَّة على ارتِبَاط الحُكْمِ بِمُطْلَقِ السَّفَر، وإذا كان الحُكْم مَذْكُوراً في نَصِّ القُرْآن، لم يكن بِهِم حَاجَةٌ إلى الاجْتِهَاد والاستِنْبَاطِ؛ فلهذا سَكَتُوا ثَلاَثَة أيّامٍ « ؛ وهو يدل على أنَّه إذَا لَمْ يَحْصُل المَسْح ثلاثة أيَّام، لا يسَمَّى مسافِراً.
واستدل الشَّافيَّة بما رَوَى مُجَاهِدٌ وعطاء، عن ابن عبَّاس، عن النبيّ ﷺ قال :» يا أهْل مَكَّة، لا تَقْصُروا في أدْنَى من أرْبَعَة بُرُد من مَكَّة إلى عُسْفَان « قال أهل الظَّاهِر : وهذا تَخْصِيص لعُمُوم القُرْآن بخَيْر الوَاحِد، وهو لا يَجُوز؛ لأن القُرْآن مَقْطُوع به والخَبَر مَظْنُونٌ، وقال ﷺ :» إذا رُوِيَ عَنِّي حديثٌ فاعْرِضُوه على كِتَاب الله- [ تعالى ]، فإن وَافق، فَاقْبَلُوه، وإلا فَرُدُّوهُ « وهذا مُخَالِفٌ لعموم الكِتَاب، وأيْضَاً فإنها أخْبَار وردَتْ في وَاقِعَةٍ تَعُمُّ الحاجَةُ إلى مَعْرفتها؛ لأن الصَّحابة - رضي الله عنهم- كانُوا في أكْثَر الأوْقَات في السَّفَر والغَزْو، فلو كَانَت الرُّخْصَة مَخْصُوصَة بِسَفَرٍ، مقدَّر، لعرفوها ونَقَلُوها نقلاً متواتراً، لا سِيَّمَا وهو عَلَى القُرْآن، وأيضاً : فدلائل الشَّافِعيَّة ودلائل الحَنَفِيَّة مُتَدافعة فسقَطَت ووجبَ الرُّجُوع لِظَاهِرِ القُرْآنِ.
فصل
خصَّ أهلُ الظَّاهر جواز القصر بِحَال الخَوْف؛ لقوله - تعالى- :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ ﴾ والمَشْرُوط بالشَّيْءِ عدمٌ، عند عَدَمِ ذلك الشَّيءِ، ولا يَجُوز دفع هذا الشَّرط بأخْبَار الآحَاد؛ لأن نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبر الوَاحِدِ لا يَجُوز.
قوله :﴿ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا ﴾ فقيل : إن يَفْتِنُوكم عن إتْمَام الرُّكُوع [ والسُّجُود ]، وقيل :» أن يفتنكم « أي يغلبكم الَّذين كَفَرُوا في الصَّلاة، ونَظِيرُه قوله :[ تعالى ] :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ ﴾ عن الصلاة؛ لأن كُلَّ مِحْنَة، وبَلِيّة، وشِدَّة فهي فِتْنَة، وجَواب الشَّرْط مَحْذُوف يَدُلُّ عليه ما قَبْلَه.