[ التحريم : ٨ ] سَمَّاه مُؤمِناً حال مَا أمَره بالتَّوْبَة، وإذا ثَبَت أنَّ صَاحِب الكَبِيرَة مُؤمِنٌن كان قوله [ - تعالى - ] ﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات ﴾ حُجَّةً في أنَّ المُؤمِن صاحب الكَبِيرَة من أهْلِ الجَنَّةِ؛ فوجبَ أن يكُون قوله :﴿ مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ ﴾ مخصوصاً بأهْل الكُفْر.
وأيضاً : فهَبْ أنَّ النَّصَّ يَعُمُّ المؤمِن والكَافِر، لكن قوله :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ٤٨ ] أخص مِنْه، والخاصُّ مقدَّم على العَامِّ، والكَلاَمُ على العُمُومات قد تَقدَّم فِي قوله :﴿ بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ [ البقرة : ٨١ ].

فصل في دلالة الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة


دلت الآيَة على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بفروع الإسْلام؛ لأن قوله - تعالى - :﴿ مَن يَعْمَلْ سواءا ﴾ يتناول جَمِيع المُحَرًّماتِ، فيَدْخل فيه ما صَدَر عن الكُفَّار مما هو مُحَرَّم في دين الإسلام، وقوله :« يُجْزَ بِهِ » يدلُّ على وُصُولِ جَزَاء كُل ذلك إلَيْهم.
فإن قِيلَ : لم [ لا ] يجُوز أن يَكُون ذَلِكَ الجَزَاء، عِبَارَة عمَّا يصل إليهم من الهُمُوم والغُمُوم في الدُّنْيَا.
فالجَوَابُ أنَّه لا بُدَّ وأن يَصِل جَزَاء أعْمَالِهم الحَسَنة إليْهِم في الآخِرَة، وإذا كان كَذَلِك، اقْتَضَى أن يكُون تَنَعُّمُهم في الدُّنْيَا أكثر؛ ولذلك قال - ﷺ - « الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمِن وجَنَّةُ الكَافِرِ » ؛ فامْتَنَع القَوْل بأنَّ جزاء أفْعَالِهِم المَحْظُورة تَصِلُ إليْهِم في الدُّنْيَا؛ فوجب القول بِوُصُول ذلك الجَزَاء [ إليْهِم ] في الآخرة.

فصل في شبهة المعتزلة وردِّها


قالت المُعْتَزِلَة : دلت [ هذه ] الآيَة على أنَّ العَبْد فَاعِلٌ، وعلى أنَّه بعملِ السُّوء يستحِقُّ الجَزَاء، وإذا كَانَ كَذَلِك، دلَّت على أنًّ اللَّه غير خَالِق لأفْعَال العِبَاد من وَجْهَيْن :
أحدُهُما : أنه لما كان عَمَلاً للعبد، امْتَنَعَ كَوْنه عَمَلاً للَّه؛ لامتناع حُصُول مَقْدُورٍ واحدٍ بِقَادِرَيْن.
والثاني : أنه لَو حَصَل بخلق اللَّه، لما استَحَقَّ العَبْد جَزَاءً ألْبَتَّة، وذلك بَاطِل؛ لأن الآيَة دلَّت على أن العَبْد يستحِقُّ الجزَاءَ على عملِهِ، وقد تقدَّمَ الجوابُ عن هذا الاسْتِدْلالِ.
قوله :﴿ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ قرأ الجمهور بجزم « يَجِدْ »، عطفاً على جواب الشرط، وروي عن ابن عامر رفعه، وهو على القطع عن النسق. ثم يُحْتمل أن يكون مستأنفاً وأن يكونَ حالاً، كذا قيل، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ المضارع المنفي ب « لا » لا يقترن بالواوِ إذا وقع حالاً.

فصل في شبهة المعتزلة بنفي الشفاعة وردها


قالت المُعْتَزِلَة :[ دلت ] الآية على نَفْي الشَّفَاعة، وأجَابُوا بوجهين :
أحدهما : أنا بيَّنا أن هذه الآيَة في حقِّ الكُفَّار.
والثَّاني : أن شفاعة الأنْبِيَاء والمَلاَئِكَة في حقِّ العُصَاة، إنَّما تكُون بإذن الله - تعالى -، وإذا كان كَذلِك، فلا وَلِيَّ لأحَدٍ ولا نصير، إلا اللَّه - سبحانه وتعالى -.
قوله :« [ وَمَن يَعْمَلْ ] مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ » « من » الأولَى : للتَّبعيضِ؛ لأنَّ المكلَّف لا يطيق عَمَل كل الصَّالِحَات.


الصفحة التالية
Icon