وقال شَهْر بن حَوْشَب : هبط مَلَكٌ في صورة رَجُلٍ، وذكر اسْمَ اللَّه بِصَوتٍ رَخيمٍ شَجِيٍّ، فقال إبْرَاهِيم - عليه السلام - : اذكره مَرَّة أخْرَى، فقال : لا أذْكُرُه مَجَّاناً، فقال : لك مَالِي كُلُّه، فذكره المَلَكُ بِصَوتٍ أشْجَى من الأوَّل، فقال : اذكره مرَّة ثَالِثَة ولك أوْلاَدِي، فقال المَلَك : أبْشِر، فإنِّي ملكٌ لا أحْتَاج إلى مَالِكَ وَوَلَدِكَ، وإنَّما كان المَقْصُود امتْحَانُك؛ فلما بَذَل المَال والوَلَد على سَمَاعِ ذكر الله [ - تعالى - ] لا جرم اتَّخذه اللَّه خَلِيلاً.
وروى طاوُس، عن ابن عبَّاس : أن جبريل - عليه السَّلام - والملائِكَة، لما دَخَلُوا على إبْراهيم - عليه [ الصلاة و ] السلام - في صُورة غِلْمَان حِسَان الوُجُوه، ظنَّ الخليل - عليه السلام - أنهم أضْيَافُه، وذَبَح لهم عِجْلاً سَمِيناً، وقرَّبَهُ إليْهِم، وقال : كلوا على شَرْطِ أن تُسَمُّوا اللَّه - تعالى - في أوَّلِه، وتَحْمَدُونَهُ في آخِرِه، فقال جِبْرِيل : أنت خَلِيلُ اللَّه.
قال ابن الخَطِيب : وعندي فيه وَجْهٌ آخَر، ومعناه : إنما سُمِّي خَلِيلاً، لأن مَحَبَّة اللَّه تخلَّلت في جَمِيع قُوَاه؛ فصار بحيث لا يَرَى إلا اللَّه، ولا يَتَحَّرك إلاَّ للَّه، [ ولا يَسْكن إلا لِلَّه ]، ولا يسمع إلا باللَّه، ولا يَمْشِي إلا للَّه، فكان نُور [ جلال ] اللَّه قد سرى في جَمِيع قُوَاه الجُسْمَانِيَّة، وتخلَّلَ وغاصَ في جَوَاهِرِها، وتوغل في ماهِيَّاتها، ومثل هذا الإنْسَان يوصَفُ بأنه خَلِيلٌ، وإليه أشار - ﷺ - بقوله [ في دعَائِهِ ] :« اللهم اجْعَل في قَلْبِي نُوراً، [ وفي سَمْعِي نُوراً ]، وفي بَصَرِي نُوراً، وفي عَصَبِي نُوراً ».

فصل


قال بَعْض النّصَارى : لما جاز إطلاق اسم الخَلِيل على إنْسَانٍ معيَّنٍ على سبيل الإعْزَازِ والتَّشْرِيف فلم لا يَجُوز إطْلاق الابْن في حَقِّ عيسى - عليه السلام - على سبيل الإعزاز والتشريف؟
وجوابُهم : أن الفَرْق بَيْنَهُما : بأن الخليل عِبَارةٌ عن المَحَبَّة المُفْرِطَةِ، وذلك لا يَقْتَضِي الجِنْسِيَّة، وأما الابْنُ : فإنه يُشْعِر بالجِنْسِيَّة، وجلَّ الإله عن مُجَانَسَة المُمْكِنات، ومشَابهة المُحْدَثَات.


الصفحة التالية
Icon