والثاني : أنه المفعُول الثاني، والأصل : وحضر الشُحُّ الأنْفُسَ، ثم أحْضَر اللَّهُ الشُحَّ الأنْفُسَ، فلما بُنِيَ الفِعْل للمفعُول أقيم الثانِي - وهو الأنْفُسُ- مقامَ الفَاعِلِ، فأخِّر الأوَّل وبقي منصوباً، وعلى هذا يَجُوز أن يُقَال :« أُعْطِي درهمٌ زَيْداً » و « كُسِي جُبَّة عَمراً »، والعَكْس هو المشهُورُ كما تقدَّم، وكلامُ الزَّمَخْشَرِي يَحْتمل كَوْنَ الثاني هو القَائِم مقام الفاعل؛ فإنه قال :« ومعنى إحْضَارِ الأنْفُس الشُحَّ : أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها، لا يَغِيب الفاعل؛ فإنه قال :» ومعنى إحْضَارِ الأنْفُسِ الشُحَّ : أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها، لا يَغِيب عنها أبداً ولا يَنْفَكُّ « يعني : أنها مَطْبُوعةٌ عليه، فأسْنِد الحضور إلى الشُحِّ كما ترى، ويحتمل أنه جعله من باب القلْب، فنسب الحُضُورَ إلى الشُحِّ، وهو في الحقيقة مَنْسُوبٌ إلى الأنْفس. وقرأ العَدَوِي :» الشِّحَّ « بكسر الشين وهي لُغَة، والشُّحُّ : البُخْل مع حرص؛ فهو أخَصُّ من البُخْل.
قال القرطبي : وهذه الآية إخبار في كُلِّ أحدٍ، وأنَّ الإنْسَان لا بُد أن يشح بِحُكْم خِلْقَتِه، وجبلَّته، حتى يَحْمِل صَاحِبَه على بَعْض ما يَكْرَه، ويقال : الشُحُّ : هو البُخْل، وحقيقته : الحِرْص على مَنْع الخَيْر. والمُرادُ به ههنا : شُح كل واحدٍ من الزَّوْجَيْن بِنَصِيبهِ من الآخَر، فَتَشِحُّ المرأة : ببذل حقِّها، ويَشِحُّ الزَّوْج : بأن يَنْقَضِي عمره مَعَهَا مع دَمَامَة وَجْهِها، وكبر سِنِّها، وعدم حُصُول اللَّذَّة بِمُجَالَسَتِها.
فصل
قال القرطبي : والشُّحُّ : الضبط على المُعْتَقَدَات والإرادَة، وفي الهِمَمِ والأمْوال، ونحو ذلك، فما أفْرِط منه على الدِّين، فهو محمود، وما أفْرِطَ منه في غَيْرِهِ، ففيه بَعْض المذمَّة. وهو قوله - تعالى - :﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ﴾ [ التغابن : ١٦ ] الآية، وما صَار مِنْه إلى حَيِّز مَنْع الحُقُوقِ [ الشَّرعيَّة ] أو الَّتِي تَقْتَضِيهَا المُرُوءة، فهو البُخْلُ؛ [ و ] هي رذيلة، وإذا آلَ البُخْل إلى هَذِه الأخْلاَق المَذْمُومَةِ، لم يبق [ معه ] خيرٌ ولا صَلاَحٌ.
روى الماوَرْدِيُّ :» أن النَّبِيَّ ﷺ قال للأنْصَار : من سَيِّدُكُم؟ قالوا : الجَدُّ بن قَيْس على بُخْلٍ فيهه؛ فقال النَّبِي ﷺ :« وأي داء أدْوَى من البُخْل » قالوا : وكيف ذَاكَ يا رسُولَ اللَّه؟ قال : إنَّ قوماً نزلوا بسَاحِل، فكرهوا لِبُخْلِهِم نُزُولَ الأضْيَافِ بِهِم، فقالوا : ليَبْعد [ الرِّجَال ] منَّا عن النِّساء؛ حتى يَعْتَذِر الرَّجَال إلى الأضْيَافِ ببعد النِّسَاء، ويعتَذِر النِّسَاء ببُعْد الرَّجَالِ، ففعلوا وطال ذَلِكَ فِيهِمْ، فاشْتَغَل الرَّجَال بالرَّجَال، والنِّسَاء بالنِّسَاء «.
ثم قال :» وإنْ تُحْسِنُوا « أي : تُصْلِحُوا » وتَتَّقوا « : الجور.
وقيل : هذا خِطَابٌ مع الأزواج، أي : وإن تُحْسِنُوا بالإقَامَة مَعَها مع الكَرَاهَةِ، وتتقوا ظُلْمَها بالنُّشُّوزِ والإعْرَاض.
وقيل [ هو ] خِطاب لغيرهما، أي : تُحْسِنُوا في الصُّلْح بينهما، وتَتَّقُوا المَيْل إلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فإن اللَّه كان بما تَعْمَلُون خَبِيراً، فيجزيكم بأعْمَالِكُم.
حكى صَاحِب الكَشَّاف : أن عِمْرَان بن حطَّان الخَارِجيَّ كان من أذَمِّ بني آدَم، وامرأته من أجْمَلِهِم، فَنَظَرَت إليه يَوْماً، ثم قالت : الحَمْدُ للَّهِ، فقال : مَا لَكِ؟ فقالت حَمَدْتُ اللَّه على أنِّي وإيَّاك من أهْل الجَنَّة؛ لأنك رُزِقْتَ مِثْلِي، فشكَرْت، ورُزِقْتُ مِثْلك؛ فَصَبَرْتُ، وقد وَعَد اللَّه بالجَنَّة الشَّاكرين والصَّابرين.