وقال الزَّمَخْشَرِي :﴿ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ ﴾ عطفٌ على « اتَّقُوا » لأنَّ المَعْنَى : أمرناهم، وأمَرْنَاكم بالتَّقْوَى، وقُلْنا لهم ولكم :« إِن تَكْفُرُواْ » وفي كلامه نظرٌ، لأنَّ تقديره القَوْلَ، ينفي كون الجُمْلة الشرطية مُنْدرجةً في حَيِّزِ الوصيَّة بالنِّسْبَة إلى الصِّناعة النَّحْوية، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط، بل قصده هو وتفسير الإعراب؛ بدليل قوله : عطف على « اتَّقُوا »، و « اتَّقُوا » داخلٌ في حيِّز الوصيَّةِ، سواءً أجعلت « أن » مصدريَّةً أم مُفسِّرة.
فصل
ومعنى [ قوله :] ﴿ أَنِ اتقوا الله ﴾ ؛ كقولك : أمَرْتُكَ الخَيْرَ، قال الكَسَائِيُّ : يقال : أوصَيْتُك أن افْعل كذا، وأن تَفْعَل كذا، ويُقال : ألْم آمُرَك أن ائت زيداً، وأن تأتِي زَيْداً؛ كقوله - تعالى - :[ و ] ﴿ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ [ الأنعام : ١٤ ]، وقوله :﴿ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ البلدة ﴾ [ النمل : ٩١ ] وتقدَّم الكلام على « وَإِن تَكْفُرُواْ ».
قوله :﴿ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي ﴾ في تعلُّقِه وجهان :
الأول : أنه - تعالى - خالقُهُم ومالِكُهُم، والمُنْعِم عليهم بأصْناف النِّعَم كلِّها، فَحَقَّ على كل عَاقلٍ أن يَنْقَاد لأوَامِرِه ونَوَاهِيهِ، ويَرْجُوا ثوابه، ويَخَاف عِقَابَهُ.
والثاني :﴿ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ من أصناف المَخْلُوقات من الملائِكَة وغيرها أطوع مِنْكُم يَعْبُدوه ويتَّقُوه، وهو مع ذَلِكَ غَنِيٌّ عن عِبَادَتِهم، و « حَمِيداً » مُسْتَحِقٌّ للحَمْد؛ لكثرة نِعمِه، وإن لم يحمده أحَدٌ منهم؛ لأنه في ذَاتِه مَحْمُود، سواء حَمَدُوه أوْ لَمْ يَحْمَدُوه.
قوله :﴿ وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً ﴾، قال عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ : يعني : شهيداً أنَّ فيها عَبِيداً.
وقيل : دَافِعاً ومُجِيراً.
فإن قيل : ما فَائِدة التَّكْرَار في قوله :﴿ وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾.
فالجواب : أنَّ لكل منها وجه :
أما الأول : معناه : للَّه مَا فِي السماوات وما فِي الأرض، وهو يُوصِيكم بالتَّقْوى، فاقْبَلُوا وصِيَّتَه.
والثاني :[ يقول :] لله ما في السماوات وما في الأرض، وكان الله غَنِيّاً، أي : هو الغَنِيُّ، وله المُلْكُ، فاطْلُبَوا منه ما تَطْلُبُون.
والثالث : يقول ﴿ وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً ﴾، أي : له المُلْك؛ فاتَّخِذُوه وَكِيلاً، ولا تتوكَّلُوا على غَيْرِه.
[ و ] قال القُرْطُبِي : وفائدة التَّكْرَار من وجهين :
الأول : أنه كَرَّر تأكيداً؛ لتنبيه العِبَاد، ولينظروا في مُلْكه ومَلكُوته، أنه غَنِيٌّ عن خَلقهِ.
والثاني : أنه كرَّر لفوائد : فأخبر في الأوَّل، أنَّ الله يُغْنِي كُلاًّ من سَعَتهِ؛ لأن لَهُ مَا في السماوات وما في الأرض، [ فلا تَنْفدُ خَزَائِنُه، ثم قال : أوْصيْناكُم وأهْلَ الكِتَاب بالتَّقْوى، وإن تَكْفُروا، فإنَّه غَنِيٌّ عنكم؛ لأنَّ له ما في السماوات وما في الأرض ] ثم أعْلم في الثَّالث : بحفظ خَلْقِه، وتدبيره إيَّاهُم بقوله :﴿ وكفى بالله وَكِيلاً ﴾ ؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض، ولم يَقُل : مَنْ في السَّموات؛ لأن في السَّموات والأرض من يَعْقِل، ومَن لا يَعْقِل.