والثاني : أنه مُضْمَر، وهو فعلٌ من مَعْنَى النهي؛ كما قدَّره ابنُ عطيَّة، كأنه يزْعمُ أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله :﴿ فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى ﴾ ثم أضْمَرَ عَامِلاً، وهذا ما لا حَاجَة إليه.
الثاني : أنه على إسْقَاطِ حرْفِ الجَرِّ، وحذْفِ « لا » النَّافِية، والأصْل : فلا تتَّبعوا الهَوَى في ألاَّ تَعْدِلوا، أي : في تَرْكِ العَدْل، فحذف « لا » لدلالة المَعْنَى عَلَيْهَا، ولمَّا حَذَف حَرْفَ الجر من « أنْ » جرى القَوْلان الشَّهِيرَان.
الثَّالث : أنه عَلَى حَذْفِ لام العِلَّة، تقديرُه : فلا تتبعوا الهوى؛ لأن تَعْدِلوا.
قال صَاحِب هذا القول :« والمعنى : لا تتبعُوا الهوى؛ لتكونوا في اتِّباعِكُمُوه عدُولاً، تنبيهاً على أن اتباعَ الهوى وتَحَرِّي العدالةِ مُتَنَافيان لا يجتمعان » وهو ضَعِيفٌ في المَعْنَى.
قوله :« وَإِن تَلْوُوا » قرأ ابن عامرٍ، وحمزة :« تَلُوا » بلامٍ مَضْمُومةٍ وواوٍ ساكنة، والبَاقُون : بلامٍ ساكنةٍ وواوَيْن بعدهَا، أولاهُمَا مَضْمُومة.
فأمَّا قراءةُ الوَاوَيْن، فظاهرةٌ؛ لأنه من لَوَى يَلْوي، والمعْنَى : وإنْ تَلْووا ألسِنَتِكُم عن شهادةِ الحَقِّ أو حكومَةِ العَدْل، والأصْلُ : تَلْوِيُون كتَضْرِبون، فاستُثْقِلَت الضَّمَّةُ على اليَاءِ فحُذفت، فالتقى سَاكِنَان : الياء وَوَاو الضَّمِير، فحُذِف أوّلُهما - وهو الياء - وضُمَّت الواوُ المكْسُورةُ التي هِيَ عَيْن لأجْل واوِ الضميرِ، فصار : تَلْوُون، وتصريفُه كتصريف « تَرْمُونَ ».
فإن كان عَنِ الشَّهادة، فالمَعْنَى : يحرِّفُوا الشَّهادة؛ ليُبْطِلُوا الحقَّ، من قولهم : لوى الشيء، إذا فتله، ومنه يُقَال : التَوَى هذا الأمْر، إذا تَعَقَّد وتعسَّرَ، تشبيهاً بالشَّيْءِ المُنْفَتِل، أو تُعْرِضُوا عنها فَتَكْتُمُوهَا، أو يُقَال : تَلْوُوا في إقامة الشَّهَادة إذا تَدَافَعُوا، يقال : لَوَيْتُه حَقَّه؛ إذا دَفَعْتَه وأبْطلْتَه.
وإن كان عَنَى الحُكْم بالعَدْل، فهو خِطَاب للحُكَّام في لَيِّهم الأشداق، يقول :« وَإِن تَلْوُواْ » أي : تميلُوا إلى أحَدِ الخَصْمَيْن، أو تُعْرِضُوا عنه.
وأما قراءة حمزة وابنِ عامرٍ، ففيها ثلاثة أقوال :
أحدُها : وهو قول الزَّجَّاج، والفراء، والفارسي في إحدى الرِّوايَتَيْن عنه - أنه من لَوَى يَلْوي؛ كقراءة الجماعة، إلاَّ أنَّ الوَاوَ المَضْمُومةَ قُلِبَتْ هَمْزةً؛ كقلبها في « أجُوه » و « أُقِّتَتْ »، ثم نُقِلت حركةُ هذه الهَمْزةِ إلى السَّاكن قَبْلَها وحذفت، فصار :« تَلُون » كما ترى.
الثاني : أنه من لَوَى يَلْوي أيضاً، إلا أن الضَّمَّة استُثْقِلَتْ على الواو الأولى فنُقِلت إلى اللام السَّاكِنَة تَخْفِيفاً، فالتقى ساكِنَان وهما الواوان، فحُذِف الأوَّل مِنْهُما، ويُعْزى هذا للنَّحَّاسِ، وفي هَذَيْن التخريجَيْن نظرٌ؛ وهو أنَّ لامَ الكَلِمَة قد حُذِفَتْ أولاً كما قَرَّرْته، فصار وَزْنُه : تَفْعُوا، بحذف اللاَّم، ثم حُذِفت العَيْنُ ثانياً، فصار وزنه : تَفُوا، وذلك إجْحَافٌ بالكلمة.
الثالث : ويُعْزى لجَمَاعةِ منهم الفَارسيُّ - أن هذه القِرَاءة مأخُوذة من الولاية، بمعنى، وإنْ وُلِّيتم إقَامة الشَّهَادة أو وُلِّيْتُم الأمرَ، فتَعْدِلُوا عنه، والأصل :« تَوْلِيُوا » فحذفت الواوُ الأولى لِوُقُوعِها بين حَرْفِ المُضَارَعَةِ وكسرةٍ، فصار :« تَلِيُوا » كتَعِدُوا وبَابِه، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياءِ، ففُعِل بها ما تَقَدَّم في « تَلْوُوا »، وقد طَعَنَ قومٌ على قِرَاءة حَمْزة وابن عامرٍ - منهم أبو عُبَيْد - قالوا : لأنَّ معنى الوِلاَية غيرُ لائقٍ بهذا المَوْضِع.