وعَبَّر ابنُ عَطِيَّة بعبارة الكوفيين، فقال :« بفتحِ العَيْن على الصَّرْف » ويعنون بالصَّرْف : عدمَ تَشْريكِ الفِعْلِ مع ما قَبْلَه في الإعْرَاب.
وقرأ أبيّ :« ومنعناكم » فعلاً ماضياً، وهي ظاهرةٌ أيضاً؛ لأنه حُمِلَ على المَعْنَى، فإنَّ معنى « أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ » : إنَّا قد اسْتَحْوَذْنا، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على نَفْي قَرَّره، ومثلُه :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا ﴾ [ الشرح : ١، ٢ ] لَمَّا كان « أَلم نَشْرَحْ » في معنى :« قد شَرحْنَا » عُطِفَ عليه « ووضَعْنا ».
ونَسْتَحْوِذُ واستحوذ مِمَّا شَذَّ قياساً، وفَصُحَ استعمالاً؛ لأنَّه مِنْ حقِّه نَقْلُ حركةِ حَرْفِ علَّتِه إلى السَّاكِن قبلها، وقَلْبها ألفاً؛ كاسْتَقَام واسْتَبَان وبابه، وقد قدمت تَحْقِيق هذا في قوله - تعالى - في الفاتحة :« نَسْتَعين »، وقد شذَّت معه ألفاظٌ أخَرُ، نحو :« أغْيَمَتْ وأغيلت المرأة وأخيَلت السَّماء » قصرها النَّحْوِيُّون على السَّماع، وقاسها أبُو زَيْد.
قوله :﴿ فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ قيل : هنا مَعْطوفٌ مَحْذُوف، أي : وبينهم؛ كقوله :[ الطويل ]
١٨٩٣- فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً | أبُو حُجُرٍ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ |
فالمعنى : أنَّ الله يَحْكُم بين المُؤمنين والمُنَافقين يوم القيامةِ، ولم يَضِع السَّيْف في الدُّنْيَا عن المُنَافِقِين، بَلْ أخّر عِقَابِهِم إلى يَوْم القِيَامَةِ.
قوله :﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ﴾.
قال عَلِيٌّ - رضي الله عنه - : في الآخِرة، قال يُسَيْع الحضرمِيّ : كُنْتُ عند عَلِيٍّ - رضي الله عنه -، فقال [ له ] رجُلٌ يا أمير المُؤمنين : أرأيْت قوله - تبارك وتعالى - :﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ﴾. كيف ذَلِك، وهم يُقَاتِلُوننَا ويَظْهَرُون علينا أحْيَاناً.
فقال عَلِيٌّ - رضي الله عنه - : معنى ذلك : يَوْم القيامة؛ وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عبَّاسٍ، وقيل : لا يجعل الله للكافرين على المُؤمنين سَبِيلاً، إلا أنْ يتواصوا بالبَاطِل، ولا يَتَنَاهَوْا عن المُنْكَر، ويتقاعَدُوا عن التَّوْبة، فيكون تَسْلِيطُ العدُوِّ من قبلهم؛ كما قال :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [ الشورى : ٣٠ ].
قال ابن العَرَبِيِّ : وهذا نَفِيسٌ.
وقيل : ولَنْ يَجْعَل اللَّه للكَافِرِين على المُؤمنين سَبِيلاً شَرْعاً، فإنْ وُجِد، فَبِخلاف الشَّرْع.
وقال عِكْرمة، عن ابن عبَّاسٍ : حُجَّة في الدُّنْيَا، وقيل : ظُهُوراً على أصْحَاب النَّبِيِّ ﷺ، وقيل : عَامٌّ في الكُلِّ، إلا ما خصَّه الدَّلِيلُ.
قوله : على المُؤمنين يَجُوز أن يتعلَّق بالجَعْلِ، ويجُوز أن يتعلَّق بِمَحذُوفٍ، ؛ لأنه في الأصْل صِفَة ل « سَبِيلاً »، فلما قُدِّم عليه، انْتَصَبَ حالاً عَنْهُ.
فصل
استدّلُّوا بهذه الآية على مَسَائِلَ :
منها : استيلاء الكَافِر على مال المُسْلِمِ بدَارِ الحَرْب، لم يَمْلِكْه.
ومنها : أن الكَافِر ليس لَهُ أن يَشْتَرِي عَبْداً مسلماً.
ومنها : أنَّ المُسْلِم لا يُقْتَل بالذِّمِّيِّ.