قال ابن عبَّاس وقتادة : لا يُحِبُّ الله رفْعَ الصَّوْتِ بما يَسُوء غيْرَه، إلا المَظْلُوم فإنَّ له أنْ يَرْفَع صوْتَهُ بالدُّعَاءِ على ظَالمِهِ.
وقال مُجَاهِد : إلا أنْ يَجْهَرَ بِظُلْمِ ظالِمِه لَهُ.
وقال الأصَمُّ : لا يَجُوزُ إظهَار الأحْوَال المستُورَة؛ لأن ذَلِكَ يصير سَبَباً لِوُقُوع النَّاسِ في الغيبَةِ؛ ووُقُوع ذلك الإنْسَان في الرِّيبَةِ، ولكن من ظَلَمَ فيجوز إظْهَارُ ظُلْمِهِ؛ بأن يُذْكَر أنَّه سَرَق أوْ غَصَب.
وقيل : نزلت في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - « فإنَّ رَجُلاً شَتَمَهُ، فسَكَت مِرَاراً ثُمّ رَدّ عليه، فقام النَّبِي ﷺ. فقال أبُو بَكْر : شَتَمَنِي وأنت جَالِسٌ، فلَّما رَدَدْتُ عليه قُمْتَ. قال : إن ملكاً كان يَرُدُّ عَنْك، فلما رَدَدْتَ [ عليه ] ذهَبَ المَلَكُ وجاء الشَّيْطَانُ، فلم أجْلِسْ عند مَجِيء الشَّيْطَانِ »، فنزلَت الآية.
وقيل : نَزَلَتْ في الضيفِ؛ روى عُقْبَة بن عَامِرٍ قال :« قُلْنَا يا رسُول الله : إنك تَبْعَثُنا فَنَنْزِلُ على قومٍ لا يُقرُونا فما تَرَى؟ فقال النَّبِي ﷺ :» إن نَزَلْتُمْ بِقَومٍ فأمَرُوا لَكُم بما ينْبَغِي للضَّيْفِ، فاقْبَلُوهُ، فإنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُم حَقَّ الضَّيْف الذي يَنْبَغِي لَهُم «.
وقيل : معنى الآيةِ إلا من أكْرِهَ [ على ] أنْ يَجْهَر بسُوءٍ من القولِ كُفْراً كان أو نحوه، فذلك مُبَاحٌ فالآيَةُ على ذَلِك في الإكْرَاه.
قال قُطْرب :﴿ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾ يريد : المُكْرَه؛ لأنه مَظْلُومٌ، قال : ويجُوز أنْ يكون المَعْنَى إلا من ظُلِمَ على البَدَلِ؛ كأنه قال : لا يُحِبُّ الله إلا مَنْ ظُلِمَ، أي : لا يُحِبُّ الظَّالِمَ؛ كأنه يقُول : يُحِبُّ من ظُلِم [ أي : يَأجُرُ من ظُلِمَ ]، والتقدير على هذا القَوْلِ : لا يُحِبُّ الله ذَا الجَهْرِ بالسُّوءِ إلا مَنْ ظُلِمَ على البَدَلِ.
قال القُرْطُبِيُّ : وظاهر الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ للمَظْلُومِ أن يَنْتَصِر من ظَالمِهِ ولكن مع اقْتِصَادٍ إن كان مُؤمِناً، كما قال الحسن، فأمَّا أن يُقَابِلَ القَذْفَ بالقذف ونحوه فلا، وإن كان كَافِراً فأرْسِلْ لِسَانَك وادْعُ بِمَا شِئْتَ؛ كما فعل النَّبِيُّ ﷺ حيث قال :»
اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأتَكَ على مُضَر، واجْعَلْهَا عَلَيْهِم سنين كَسِني يُوسُف «.

فصل : لا يحب الله الجهر بالسوء ولا غير الجهر


قال العُلَمَاء : إنه - تعالى - لا يُحِبُّ الجَهْرَ بالسُّوءِ من القَوْلِ ولا غَيْر الجَهْر، وإنما ذكر هذا الوصف؛ لأن كيفيَّة الواقِعَة أوْجَبَتْ ذلك؛ كقوله - تعالى - :﴿ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ ﴾ [ النساء : ٩٤ ] والتَّبَيُّن واجِبٌ في الظَّعْنِ والإقَامَة، فكذا هَهُنَا.

فصل شبهة المعتزلة وردها


قالت المعتزلةُ : دلت الآيةُ على أنَّهُ لا يُرِيدُ من عِبَادِهِ فِعْلَ القَبَائِحِ ولا يَخْلُقُها؛ لأن مَحَبَّة الله عِبَارةٌ عن إرادته، فلما قال :﴿ لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول ﴾. علمنا أنه لا يُرِيدُ ذلك، وأيْضاً لو كَانَ خَالِقاً لأفْعَالِ العِبَادِ، لكان مُرِيداً لَهَا؛ ولو كان مُريداً لَهَا، لكان قَدْ أحَبَّ إيجَادَ الجَهْرِ بالسُّوءِ من القَوْلِ، وهو خِلاَفُ الآيَةِ.
والجواب : المَحبَّة عِبَارَةٌ عن إعْطَاء الثَّوَابِ على القَوْلِ، وعلى هذا يَصِحُّ أن يُقال : إنَّه - تعالى - أرادَهُ ولكِنَّهُ ما أحَبَّهُ.
ثم قال :﴿ وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً ﴾ وهو تَحْذِيرٌ من التَّعَدِّي في الجَهْرِ المأذُونِ فيه، يعني : فَلْيتَّقِ اللَّه ولا يَقُل إلاَّ الحقَّ، فإنه سَمِيعٌ لما تقوله، عليم بما تُضْمِرُه، وقيل : سَمِيعٌ لِدُعَاءِ المَظْلُوم، عَلِيمٌ بعِقَابِ الظَّالِمِ.


الصفحة التالية
Icon