وذلك أن كَعْبَ بنَ الأشْرَف، وفنحَاصَ بن عَازُورَاء من اليَهُودِ قالا لِرَسُول الله ﷺ : إن كُنْتَ نَبِيّاً فأتِنَا بكِتَابٍ جُمْلةً من السَّماءِ؛ كما أتَى [ به ] مُوسى - عليه السلام -، فأنزل الله - تعالى - :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء ﴾. وكان هذا السُّؤال مِنْهُم تَحَكُّماً واقْتِرَاحاً، لا سُؤال انْقِيَادٍ، واللَّه - تعالى - لا يُنَزِّل الآيَاتِ على اقْتِرَاحِ العِبَادِ، والمَقْصُود من الآيَةِ : بيان ما جَبِلوا عليه من التَّعنَّتِ؛ كأنه قِيلَ : إن مُوسَى لمَّا نزلَ عليه كِتَابٌ من السَّمَاءِ، لم يكْتَفُوا بِذلكَ القَدْر، بل طَلَبُوا مِنْهُ الرُّؤيَة على سَبِيلِ المُعَايَنَةِ، فكان طَلَبُ هؤلاءِ الكِتَاب لَيْس لأجْلِ الاسْتِرْشَادِ، بل لمَحْضِ العِنَادِ.
قوله :« فَقَدْ سَأَلُوا » : في هذه الفاءِ قولان : أحدهما : أنها عاطفةٌ على جملة محذوفة، قال ابن عطيَّة :« تقديره : فلا تبال، يا محمَّد، بسؤالِهِم، وتشطيطهم، فإنها عادُتُهمْ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك.
والثاني : أنها جوابُ شرطٍ مقدَّر، قاله الزمخشريُّ أي : إن استكْبَرْتَ ما سألوه منْكَ، فقد سَألُوا »، و « أكْبَرَ » صفةٌ لمحذوف، أي : سؤالاً أكْبَرَ من ذَلِكَ، والجمهور :« أكبرَ » بالباء الموحدة، والحسن « أكْثَرَ » بالثاء المثلثة.
ومعنى « أكْبَر » أي : أعْظَم من ذَلِك، يعني : السَّبْعِين الَّذِين خَرَجَ بِهِمْ [ مُوسَى ] إلى الجَبَلِ، ﴿ فقالوا : أَرِنَا الله جَهْرَةً ﴾ أي : عِياناً، فقولهم :« أرِنَا » جُمْلَة مفَسِّرة لِكبَرِ السُّؤال، وعِظَمِه. [ و « جَهْرَةَ » تقدَّم الكلام عليها، إلا أنه هنا يجوز أن تكون « جَهْرَةً » من صفةِ القوْلِ، أو السؤالِ، أو مِنْ صفةِ السائلين، أي : فقالوا مجاهِرِين، أو : سألوا مجاهرينَ، فيكونُ في محلِّ نَصْبٍ على الحال، أو على المَصْدر، وقرأ الجمهور « الصَّاعِقَةُ ». وقرأ النَّخَعِيُّ :« الصَّعْقَةُ » وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة والباء في « بِظُلْمِهِمْ » سببيةٌ، وتتعلَّق بالأخْذ ].
قوله :﴿ ثُمَّ اتخذوا العجل ﴾ يعنى : إلهاً، ﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ﴾ وهي الصَّاعِقَة، وسمَّاها بَيِّنَاتٍ - وإن كَانَتْ شَيْئاً وَاحِداً؛ لأنها دالَّةٌ على قُدْرَة الله - تعالى -، وعلى عِلْمهِ وعلى قدمِهِ، وعلى كَوْنهِ مُخَالِفاً للأجْسَامِ والأعْرَاضِ، وعلى صِدْق مُوسَى. وقيل :« البَيِّنَات » إنْزَال الصَّاعِقَةِ وإحْيَاؤُهُم بعد إمَاتِتِهم. وقيل : المُعْجِزَاتُ التي أظْهَرَها لِفِرْعَوْن، وهي العَصَا، واليَدُ البَيْضَاءُ، وفَلْقُ البَحْرِ، وغيرها من المُعْجِزَات القاهرة.
ثم قال :﴿ فَعَفَوْنَا عَن ذلك ﴾ ولم نَسْتَأصِلْهُم. قيل : هذا اسْتِدْعَاءٌ إلى التَّوْبَة، مَعْنَاه : أن أولئك الَّذِين أجْرَمُوا تَابُوا، فَعَفَوْنَا عَنْهُم، فتُوبوا أنْتُم حتى نَعْفُوا عَنْكُم. وقيل : مَعْنَاه : أن قَوْم مُوسَى - وإن كَانُوا قَدْ بَالَغُوا في اللِّجَاجِ والعِنَادِ، لكنا نَصَرْنَاهُ وقَرَّبْنَاهُ فعَظم أمْرُه وضَعُفَ خَصْمُه، وفيه بِشَارَةٌ للرَّسُول - ﷺ - على سبيلِ التَّنْبِيهِ والرَّمْزِ، وهو أنَّ هؤلاء الكُفارِ وإن كانوا يُعَانِدُونه - فإنَّه بالآخِرَة يَسْتَوْلي عَلَيْهم ويَقْهَرُهُم.