فالمراد بقوله :« وَبِكُفْرِهِم » هو إنْكَارُهُم قُدْرَة الله - تعالى -، وبقوله :﴿ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ﴾ نِسْبَتُهُم إيّاهَا إلى الزِّنَا، ولمَّا حَصَل التغَيُّر حسن العَطْف، وإنما صار هذا الطَّعْنُ بُهْتاناً عَظِيماً؛ لأنه ظَهَر عند ولادَةَ عِيسَى - عليه السلام - [ من ] الكَرَامَاتِ والمُعْجِزَاتِ، ما دَلَّ على بَرَاءَتِها من كُلِّ عَيْبٍ، نحو قوله :﴿ وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ﴾ [ مريم : ٢٥ ] وكلام عيسى - [ عليه السلام ] - طفْلاً مُنْفصِلاً عن أمِّهِ، فإنَّ كُلَّ ذلك دَلاَئِل قاطِعَةٌ على بَراءة مَرْيَم - [ عليها السلام ] - من كل رِيبَةٍ، فلا جَرَم وَصَف اللَّهُ - [ تعالى ] - [ طَعْنَ ] اليهُود فيها بأنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.
واعلم أنَّه لما وَصَفَ طَعْن اليَهُود في مَرْيم بأنَّه بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، ووصَفَ طَعْن المُنَافِقِين في عَائِشَةَ بأنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ قال :﴿ سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [ النور : ١٦ ] ؛ دلَّ ذلك على أنَّ الرَّوَافِضَ الَّذِين يَطْعَنُون في عَائِشَةَ، بمَنْزِلَة اليَهُودِ الَّذِين يَطْعَنُون في مَرْيم - عليها السلام -.
قوله :« وَقَوْلُهُم » عَطْف على « وَكُفْرِهِم »، وكُسِرت « إنَّ » لأنَّها مُبْتَدأ بعد القَوْلِ وفَتْحهَا لُغَة.
و « عِيسَى » بدلٌ من « المَسِيح »، أو عطفُ بيان، وكذلك « ابن مَرْيَم »، ويجوز أن يكونَ صفةً أيضاً، وأجاز أبو البقاء في « رَسُول الله » هذه الأوجه الثلاثة، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليلٌ، وقد يُقال : إنَّ « رَسُول الله » جرَى مَجْرَى الجوامدِ، وأجاز فيه أن يَنْتصبَ بإضمار « أعني »، ولا حاجةَ إليه. قوله « شُبِّهَ لَهُمْ » :« شُبِّهَ » مبني للمفعول، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مسند للجارِّ بعده؛ كقولك :« خُيِّلَ إليه، ولُبِّسَ علَيْهِ » [ كأنَّه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه ].
والثاني : أنه مسندٌ لضمير المقْتُول الَّذِي دَلَّ عليه قولهم :« إِنَّا قَتَلْنَا » أي : ولكن شُبِّه لهم من قتلُوه، فإن قيل : لِمَ لا يَجُوز أن يعودَ على المسيحِ؟ فالجوابُ : أن المسيحَ مشبَّه به [ لا مشبَّه ].
فصل
وهذا القَوْلُ مِنْهُم يَدُلُّ على كُفْرٍ عَظِيمٍ مِنْهُم؛ لأن قَولَهُم، فَعَلْنَا ذَلِك، يدل على رَغْبَتِهِم في قَتْلِهِ [ بجدٍّ واجْتِهَادٍ ]، وهذا القَدْرُ كُفْر عَظِيمٌ.
فإن قِيلَ : اليَهُود كَانُوا كَافِرِين بِعيسَى - عليه السلام - أعداء لَهُ، عَامِدِين لِقَتْلِه، يسَمُّونَهُ السَّاحِرَ ابن السَّاحِرَة؛ والفاعِل ابْنَ الفاعِلة، فكيف قَالُوا : إنّا قَتلْنَا المَسيح [ عيسى ] ابن مَرْيَم رسُول الله؟.
فالجوابُ من وَجْهَيْن :
الأول : أنهم قَالُوهُ على وَجْه الاسْتِهْزَاءِ؛ كقول فِرْعَوْن :