[ الأنعام : ٩١ ] والجملةٌ أيضَاً في محل الصفة.
وقيل : نصب على حذف حر الجرِّ، والتقدير : كما أوحَيْنَا إلى نُوحٍ، وإلى رُسُل.
وقرأ أبيُّ :« وَرُسُلٌ » بالرفع في الموضعين، وفيه تخريجان :
أظهرهما : أنه مبتدأ وما بعده خبرُه، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ؛ لأحدِ شيئين : إمَّا العطفِ؛ كقوله :[ البسيط ]

١٩٠٥- عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتِلَتِي فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امرُؤٌ سَمِعَا
وإما التفصيل؛ كقوله :[ المتقارب ]
١٩٠٦- فَأقْبَلْتُ زَحْفاً على الرُّكْبَتَيْنِ فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أجُرْ
وكقوله :[ الطويل ]
١٩٠٧- إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
والثاني - وإليه ذهب ابن عطيَّة - : أنه ارتفع على خبر ابتداء مضمر، أي : وهم رُسُلٌ، وهذا غير واضح، والجملة بعد « رسُل » على هذا الوجه تكونُ في محلِّ رفع؛ لوقوعها صفةً للنكرة قبلها.
قوله :﴿ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ ﴾ كالأول. وقوله :﴿ وَكَلَّمَ الله موسى ﴾ الجمهور على رفع الجلالة، وهي واضحةٌ. و « تَكْلِيماً » مصدرٌ مؤكد رافعٌ للمجاز.
قال الفرَّاء : العَرَبُ [ تُسَمِّي ] ما يُوصَلُ إلى الإنْسَانِ كلاماً بأيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ ولكِنْ لا تُحَقِّقُه بالمصْدَرِ، فإذا حُقِّق بالمصْدَرِ، لم يَكُنْ إلاَّ حَقِيقَةَ الكلامِ؛ كالإرادَةِ، يُقال : أراد فُلانٌ إرادَةً، يريد : حَقيقةَ الإرَادَة.
قال القُرْطُبِي :« تَكْلِيماً » يقدر مَعْنَاه بالتَّأكِيدِ، وهذا يَدُلُّ على بُطْلانِ قول من يقُولُ : خَلَق [ اللَّه ] لِنَفْسه كَلاَماً في شَجَرةٍ، فَسَمِعَهُ مُوسَى - [ عليه السلام ] -، بل هو الكلامُ الحقيقيُّ الذي يكُون به المُتَكَلِّم مُتَكَلِّماً.
قال النَّحَّاس : وأجمع النَّحوِيُّون على أنَّك إذا أكَّدْت الفِعْلَ بالمصْدَر، لم يَكُنْ مجازاً، وأنَّه لا يجُوزُ في قول الشاعر :[ الرجز ]
١٩٠٨- امْتَلأ الْحَوْضُ وقال قَطْنِي... أن يقول : قال قولاً فكذا لمَّا قال :« تَكْلِيماً » وجَبَ أن يكُون كلاماً على الحَقِيقَةِ.
ومعنى الآية : أنَّ الله - تعالى - ذكر هَؤلاء الأنْبِيَاء والرُّسُل [ وخص مُوسَى ] بالتكْلِيم مَعَهُ ولم يَلْزَم مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى عليه السلام بهَذَا التَّشْرِيف، الطَّعْن في نُبُوة الأنْبِيَاء - عليهم السلام -، فكَذَلِك لا يلزم من إنْزَالُ التَّوْرَاة دفْعَةً واحِدَةً الطَّعْن فيمن أُنْزِل عليه الكِتَاب مُفَصَّلاً.
وقرأ إبْراهيم ويَحْيَى بن وَثَّاب : بنَصْبِ الجلالة.
وقال بعضُهُم :﴿ وَكَلَّمَ الله [ موسى تَكْلِيماً ] ﴾ معناه : وجَرَحَ اللَّهُ مُوسَى بأظْفَار المحن ومَخَالِب الفَتن، وهذا تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ.
وقد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز؛ كقول هند بنت النعمانِ بن بشير في زوْجِها رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ وزيرِ عبد الملِكِ بْنِ مَرْوَانَ :[ الطويل ]
١٩٠٩- بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنْكَرَ جِلْدَهُ وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ
تقول : إنَّ زوْجَها رَوْحاً قد بكَى ثيابُ الخَزِّ مِنْ لُبْسِهِ؛ لأنه ليس من أهل الخَزِّ، وكذلك صرخَتْ صُرَاخاً من جُذَام - وهي قبيلة رَوحٍ - ثيابُ المطارِفِ، تعني : أنهم ليسوا من أهل تلك الثياب، فقولها :« عَجَّتِ المَطَارِفُ » مجازٌ؛ لأن الثياب لا تعجُّ، ثم رَشحَتْهُ بقوله عَجِيجاً، وقال ثَعْلَبٌ : لولا التأكيد بالمصدر، لجاز أن يكونَ كما تقول :« كَلَّمْتُ لك فُلاناً »، أي : أرسلْتُ إليه، أو كتبتُ له رُقْعةً.


الصفحة التالية
Icon