قوله تعالى :﴿ لكن الله يَشْهَدُ ﴾ هذه الجملة الاستدراكية لا يبتدأ بها، فلا بدَّ من جملة محذوفة، وتكون هذه الجملةُ مستدركةً عنها، والجملة المحذوفةُ هي ما رُويَ في سبب النزول؛ أنه لَمَّا نَزَلَت :﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ [ الآية : ١٦٣ النساء ]، قالوا : ما نشهد لك بهذا أبداً، فنزلت :﴿ لكن الله يَشْهَدُ ﴾، وقد أحسن الزمخشريُّ هنا في تقدير جملةٍ غيرِ ما ذكرتُ، وهو :« فإنْ قلْتَ : الاستدراكُ لا بُدَّ له من مُسْتدركٍ، فأيْنَ هو في قوله :﴿ لكن الله يَشْهَدُ ﴾ ؟ قلتُ : لمَّا سأل أهلُ الكتاب إنزال الكتاب من السماء، وتعنَّتوا بذلك، واحتجَّ عليهم بقوله :﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ قال :﴿ لكن الله يَشْهَدُ ﴾ بمعنى أنهم لا يشهدون، لكن اللَّهُ يَشْهَدُ »، ثم ذكر الوجه الأول.
وقرأ الجمهور بتخفيفِ « لَكِن » ورفعِ الجلالة، والسُّلَمِيُّ والجرَّاح الحكمي بتشديدها ونَصْب الجلالة، وهما كالقراءتين في ﴿ ولكن الشياطين ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] وقد تقدَّم، والجمهورُ على « أنْزَلَهُ » مبيناً للفاعل، وهو الله تعالى، والحسن قرأه « أُنْزِلَ » مبنيًّا للمفعول، وقرأ السلميُّ « نَزَّلَهُ بِعِلْمِهِ » مشدَّداً، والباء في « بعلْمِهِ » للمصاحبة، أي : ملتبساً بعلمه، فالجارُّ والمجرور في محلِّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : الهاءُ في « أنْزَلَهُ ».
والثاني : الفاعل في « أنْزَلَهُ » أي : أنزله عالماً به، و « والمَلائِكةُ يَشْهَدُونَ » مبتدأ وخبر، يجوز أن تكون حالاً أيضاً من المفعول في « أنْزَلَهُ »، أي : والملائكة يَشْهَدُونَ بصدْقه، ويجوزُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ، وحكمه حينئذٍ كحُكْم الجملة الاستدراكيّة قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على مِثْلِ قوله :﴿ وكفى بالله شَهِيداً ﴾ [ النساء : ١٦٦ ].
فصل
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : إن رُؤسَاء مكَّةَ أتوا رسُول الله ﷺ وشَرَّف وكَرَّم ومَجَّد وعَظَّم وقالوا : يا مُحمَّد، إنا سَألْنَا عنْكَ اليَهُودَ، عن صفتِك في كِتَابِهِم، فَزَعَمُوا أنَّهُم لا يَعْرِفُونَك ودخل عليه جَمَاعَةٌ من اليَهُودِ، فقال لَهُم :« والله إنَّكُمْ لتَعَلمُن أنِّي رَسُولُ اللَّهِ » فقالوا : ما نَعْلَمُ ذلك واللَّهِ، فأنزلَ الله - تعالى - :﴿ لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ [ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾ ] إن جحدوك وكَذَّبُوك، وشهادَةُ الله عُرِفَتْ بإنْزَالِ هذا القُرآنِ البَالِغ في الفَصَاحَةِ إلى حَيْثُ عَجَز الأوَّلُون والآخِرُون عن مُعَارَضَتِهِ، فكان ذَلِكَ مُعْجِزاً، وإظْهَارُ المُعْجِزَة شهادَةٌ بكَوْن المُدَّعِي صَادِقاً، ولما كانت شهادتُهُ إنما عُرِفَتْ بإنْزَالِهِ بواسِطَة القُرْآنِ، قال :﴿ لكن الله يَشْهَدُ ﴾ لك بالنُّبُوَّةِ، بواسِطَة إنْزَالِ هذا القُرْآنِ عليك، ثم بيَّن صفَة هذا الإنْزَال، وهو أنَّه - تعالى - أنْزَلَهُ بِعِلْمٍ تَامٍّ، وحِكْمَةٍ بَالِغَة. فقولُهُ بغايَةِ الحُسْن ونهاية الكَمَالِ؛ كما يُقالُ في الرَّجُل المَشْهُور بكَمَالِ الفَضْل والعِلْم، إذا صَنَّف كتاباً واسْتَقْصَى في تحْريره : إنَّه إنما صنَّفَ هذا بكَمَالِ عِلْمِه وفَضْلِه، يعني : أنه اتَّخَذَ جُمْلَة عُلُومه وسِيلَةً إلى تَصْنِيفِ هذا الكِتَابِ، فيدُلُّ ذَلِك عَلَى وَصْفِ ذلك التَّصْنِيف بِغَايَةِ الجَوْدَةِ والحُسْنِ، فكذا هَهُنَا دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ لله - تعالى - عِلْماً؛ لأنَّها أثْبَتتِ العلم للَّه - تعالى - ولو كان عِلْمُهُ نَفْس ذَاتِهِ، لزم إضافَةُ الشَّيْء إلى نَفْسِهِ، وهُوَ مُحَال.