فصل في تفسير الكلمة
قد تقدَّم في تَفْسِير « الكَلِمَةِ » في قوله :﴿ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ا ﴾ [ آل عمران : ٤٥ ]، والمعْنَى : أنَّهُ وُجِدَ بكَلِمَةِ اللَّهِ وأمْرِه، من غَيْرَ وَاسِطَة [ أب ] ولا نُطْفَة؛ لقوله [ تعالى ] :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن [ فَيَكُونُ ] ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ].
قوله تعالى ﴿ وَرُوحٌ ﴾ عطفٌ على « كَلِمَة »، و « مِنْهُ » صفة ل « رُوح »، و « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً، وليست تبعيضيَّةً، ومن غريب ما يحكى أن بعض النصارى ناظَرَ عليَّ بْنَ الحُسَيْنِ بن واقدٍ المَرْوزِيَّ، وقال :« في كتاب الله ما يَشهدُ أنَّ عيسى جُزْءٌ مِنَ الله »، وتلا :« وَرُوحٌ مِنْهُ »، فعارضه ابنُ واقدٍ بقوله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾ [ الجاثية : ١٣ ]، وقال :« يلزمُ أنْ تكونَ تلك الأشياءُ جزءاً من الله تعالى، وهو محالٌ بالاتفاقِ »، فانقطع النصرانيُّ وأسْلم.
فصل
قيل : معنى « رُوحٌ مِنْهُ » [ هي ] رُوحٌ كسَائِرِ الأرْواحِ، وإنَّما أضَافَها الله - تعالى - إلى نَفْسِهِ تَشْرِيفاً.
وقيل : الرُّوحُ هو النَّفْخُ الذي نَفَخَهُ جِبْريل في دِرْعِ مَرْيم - [ عليها السلام ] - فَحَمَلَتْ بإذْنِ اللَّه، سُمِّي النَّفْخُ « رُوحاً » ؛ لأنَّه ريحٌ يخْرُجُ من الرُّوح، وأضافَهُ إلى نَفْسِهِ؛ لأنه كان بأمْرِهِ.
والرُّوح والرِّيحُ مُتَقَارِبَانِ، فالرُّوحُ : عِبَارَةٌ عن نَفْخِ جِبْرِيلٍ - عليه السلام -، وقوله :« مِنْهُ » يعني : أنَّ ذلِك النَّفْخَ من جِبْرِيل كان بأمْر الله وإذْنه، فَهُو مِنْهُ؛ وهكذا قولُه :﴿ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ [ التحريم : ١٢ ].
وقيل :« رُوحٌ مِنْهُ » أي : رَحْمَةً مِنْهُ، فكان - عليه السلام - رحْمَة لمن تبعَهُ، وآمَن بِهِ، من قوله - [ تعالى ] - :﴿ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ]. أي : برحْمَةٍ مِنْهُ وقال - ﷺ - :« إنَّما أنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ».
وقيل : الرُّوحُ الوَحِي، أوْحَى إلى مَرْيَمَ بالبشَارَة، وإلى جِبْرِيلَ بالنَّفْخِ، وإلى عيسى أن كُنْ فكان؛ كقوله - [ تعالى ] - :﴿ يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ النحل : ٢ ]. يعني : بالوَحْي؛ وقال - تعالى - في صِفَةِ القُرْآنِ :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ].
وقيل : أراد بالرُّوح : جِبْريل، مَعْنَاهُ : كَلِمتهُ ألْقَاهَا إلى مَرْيَمَ، وألْقَاها - أيضاً - رُوحٌ مِنْهُ بأمْرِهِ، وهو جِبْرِيلُ [ - عليه السلام - ] ؛ كقوله :﴿ تَنَزَّلُ الملائكة [ والروح فِيهَا ] ﴾