قوله - تعالى - :﴿ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرها : أن مفعول البيان محذوفٌ، و « أن تَضِلُّوا » مفعولٌ من أجله؛ على حذفِ مضاف، تقديره : يُبَيِّنُ اللَّهُ أمْرَ الكلالةِ كراهة أنْ تَضِلُّوا فيها، أي : في حُكْمِهَا، وهذا تقديرُ المبرِّد.
والثاني - قول الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين - : أنَّ « لا » محذوفةٌ بعد « أنْ »، والتقدير : لئلاَّ تَضِلُّوا، قالوا : وحذفُ « لا » شائعٌ ذائعٌ؛ كقوله :[ الوافر ]

١٩١٢- رَأيْنَا مَا رَأى البُصَراءُ فِيهَا فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أنْ تُبَاعَا
أي : ألاَّ تُبَاعَ، وقال أبو إسحاق الزَّجاج :« هو مثل قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ ﴾ [ فاطر : ٤١ ] أي : لئلا تَزُولا، وقال أبو عبيد :» رَوَيْتُ للكسائيِّ حديث ابن عُمَر وهو :« لا يَدْعُونَّ أحدُكُمْ على وَلَدِهِ أن وَافَقَ مِنَ الله إجَابَة » فاستحسنه، أي : لئلاَّ يوافق.
قال النَّحَّاس : المعنى عند أبي عُبَيْد : لئلا يُوافِق من اللَّه إجابة، وهذا القَوْلُ عند البصريِّين خطأ؛ لأنهم لا يُجِيزُون إضْمَار « لا »، والمعنى عندهُم : يبيِّن الله لَكُم كرَاهَة أنْ تَضِلُّوا، ثم حذف؛ كما قال :﴿ [ واسأل القرية ] ﴾ [ يوسف : ٨٢ ]، وكذا معنى الحديث، أي كَراهَة أن يُوافِقَ من اللَّه إجَابَة.
ورجَّح الفارسيُّ قول المبرِّد؛ بأنَّ حذفَ المضاف أشيعُ من حذف « لا » النافية.
الثالث : أنه مفعول « يُبَيِّنُ »، والمعنى : يبيِّن الله لكُمُ الضلالة، فتجتنبونَها؛ لأنه إذا بيَّن الشر اجتُنِبَ، وإذا بيَّن الخيرَ ارتُكِب.

فصل


اعلم أن في هذه السُّورَة [ الشَّرِيفَة ] لَطِيفَة عَجِيبة، وهي أن أوَّلَها مشتمل على بيان كمال قُدْرَة الله - تعالى -؛ لقوله :﴿ ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ النساء : ١ ] وهذا دَالٌّ على سِعَة القُدْرَة، وآخِرَهَا مُشْتَمِلٌ على بيان كَمَالِ العِلْمِ، وهو قوله تعالى :﴿ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ وهذا الوَصْفَان؛ أعني : العِلْم والقُدْرَة بهما تثبت الرُّبُوبِيَّة والإلهِيَّة والجلال والعِزَّة، وبهما يَجب على العَبْد أن يكُون مُطِيعاً للأوامر والنَّواهِي، مُنقَاداً للتَّكَالِيف.
رُوِي عن البَرَاء [ بن عَازِب ] قال : آخِرُ سُورَة [ نَزَلت ] كَامِلَة ﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ الله ﴾ [ التوبة : ١ ] وآخر آية نزلت، آخر سُورة النِّسَاءِ :﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة ﴾.
وروي [ عن ] ابن عباس؛ [ أنَّ ] آخِر آية نزلت آية الرِّبَا، وآخر سُورة نزلت :﴿ إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح ﴾ [ النصر : ١ ].
ورُوي بعدمَا نَزَلَتْ سُورة « النصْر » عاشَ رسُول الله ﷺ بَعْدَهَا سِتَّة أشْهُر، ثم نَزَلَتْ في طَرِيق حجَّة الوداع :﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة ﴾ فسمِّيت آية الصَّيْف، لأنها نَزَلَتْ في الصَّيْف، ثم نَزَلَتْ وهو وَاقِفٌ بعَرَفَات :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [ وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً ] ﴾ [ المائدة : ٣ ]، فعاش بَعْدَها إحْدَى وعِشْرِين يوماً.
عن أبيٍّ قال : قال رسُول الله ﷺ :« مَنْ قَرَأ النِّساء فَكَأنَّمَا تَصَدَّقَ على كلِّ مَنْ وَرِثَ مِيرَاثاً، وأعْطِي مِنَ الأجْرِ كَمَنِ اشْتَرى مُحرّراً، وبَرِئ مِنَ الشِّرْك، وَكَانَ في مَشِيئةَ اللَّهِ - تعالى - مِنَ الَّذِين يَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ ».


الصفحة التالية
Icon