﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة ﴾ [ المائدة : ٣ ] الآية استثناءً منقطعاً؛ إذْ لا تختصُّ الميْتَةُ وما ذُكِر معها بالظِّبَاءِ، وبقرِ الوحشِ وحُمُرِه، فيَصيرُ التقديرُ : لكِنْ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي : تحريمُهُ فهو مُحرَّمٌ وإنْ كانَ المُرادُ ببهيمة الأنْعامِ [ الأنعام ] والوحوش، فيكون الاستثناءانِ راجعيْن إلى المجموع على التَّفْصِيلِ، فيَرْجِع « مَا يتلى عَلَيْكُمْ » إلى « ثَمَانِيَة » الأزْوَاجِ، ويرجِعُ « غَيْرَ مُحِلِّي الصيد » إلى الوحوشِ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يكون الثَّانِي استثناءً من الاستثناءِ الأوَّلِ، وإذا لم يمكنْ ذلك، وأمْكَنَ رُجُوعُهُ إلى الأوّلِ بوجهٍ ما رجع إلى الأولِ.
وقد نَصَّ النحويونَ : أنَّه إذا لَمْ يمكنْ استثناء بَعْضِ المستثنيات مِنْ بَعْض جُعِل الكُلّ مُسْتثنى من الأوَّل، نحو : قام القومُ إلا زيداً إلا عمْراً إلا بَكْراً، فإن قلت ما ذكرته من هذا التخريجِ الغريبِ، وهو كونُ المحلّ مِنْ صفة الصَّيْدِ، لا مِنْ صِفَة النّاسِ، ولا مِنْ صِفَة الفاعلِ المحذوفِ يَأبَاهُ رَسْمُهُ في المصْحَف « محلّي » بالياء، ولو كان مِنْ صِفَةِ الصَّيدِ دُونَ الناسِ لكُتبَ « مُحِلّ » من غير ياءٍ، وكون القُرَّاءِ وَقَفُوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك.
قلتُ : لا يعكّر ذلك على هذا التخريج؛ لأنَّهم قَدْ رَسَمُوا في المصحفِ الكريمِ أشياء تخالِفُ النُّطْقَ بها ككتابتهم :﴿ لأَاْذْبَحَنَّهُ ﴾ [ النمل : ٢١ ]، ﴿ وَلأَوْضَعُواْ ﴾ [ التوبة : ٤٧ ]، ألفاً بَعْد لامِ الألف [ وكتابتهم ﴿ بِأَيْيْدٍ ﴾ [ الذاريات : ٤٧ ] بياءين بعد الهمزة وكتابتهم « أولئك » بزيادة واوِ ونَقْصِ ألف بَعْدَ اللاَّمِ، وكِتَابتِهِمْ :« الصَّالِحَاتِ » [ ونحوه ] بسُقُوطِ العَيْن إلى غير ذلك.
وأمَّا وقْفُهم عليه بالياء فلا يجُوزُ؛ إذْ لا يُوقَفُ على المضافِ دُونَ المضافِ إليه.
وإنْ وقف واقفٌ فإنَّما يكونُ بقَطْعِ نَفَسِ واختيار.
على أنَّه يمكنُ تَوْجِبهُ كتابتِهِ بالياء والوقفِ عَلَيْه بها، وهو أن لُغَةَ « الأزْد » يَقفونَ فيها على « بزيدٍ، بزيدي » بإبدال التَّنْوين ياءً، فَكُتِبَ « مُحِلّي » على الوقف على هذه اللُّغَةِ - بالياءِ، وهذا توجيه شُذُوذٍ رَسْمِيّ، ورسمُ المصحفِ ممّا لا يقاسُ عليه، انتهى.
قال شهابُ الدين : وهذا الذي ذَكَرَهُ، وأجازه، وغَلَّطَ النَّاسَ فيه لَيْسَ بشيء، وما ذكره من تَوجيه ثُبُوتِ الياءِ خَطّاً ووَقْفاً، فَخَطَأٌ محض؛ لأنه على تقدير تَسْلِيم ذلك في تلك اللُّغَةِ، فأيْنَ التنوينُ الذي في « مُحِلّ » ؟ وكيف يكونُ فيه تنوينٌ، وهو مضافٌ حَتّى يقول : إنَّه قد يُوجَّهُ بلُغَةِ « الأزْدِ » ؟
وما ذكره مِنْ كونه يَحْتَمِلُ مِمَّا يكونون قَدْ كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة، فَشَيءٌ لا يُعَوَّلُ عليه؛ لأنّ خَطّ المصحفِ سُنَّة متبعة لا يقاسُ عليها، فكيفَ يقول : يحتمل أن يقاسَ هذا على تلك الأشياء؟
وأيضاً فإنهم لم يُعْرِبُوا [ غَيْر ] إلاَّ حالاً، حتّى نقل بعضُهم الإجْماعَ على ذلك.