فصل في حرمة جميع الإتلافات لمال اليتيم
ذكر تعالى الأكل إلا أنَّ المراد منه كُلّ أنواع الإتلافات فإنَّ ضرر اليتيم لا يختلفُ بأن يكون إتلاف مال بالأكْلِ، أو بطريقٍ آخَرَ، وإنَّمَا ذكر الأكْلَ، وأراد به كُلَّ التَّصرفات المُتْلِفَةِ لِوُجُوهٍ :
أحدها : أنَّ عامَّة أموال اليَتَامَى في ذلك الوقت هو الأنعام الَّتي يؤكل لحومها ويَشْرَبُ ألبانها فخرجَ الكَلاَمُ على عاداتهم.
وثانيها : أنَّهُ جَرَتِ العَادَةُ فيمن أنْفَقَ مَالَهُ في وجوه مراداته خيراً كانت أو شراً أنَّهُ يقال : إنَّهُ أكل ماله.
وثالثها : أنَّ الأكل هو المعظم فما يبتغي من التَّصرفات.
قوله :﴿ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾، قرأ الجمهور بفتح الياء واللام، وابن عامر وأبو بكرٍ بضمِّ اليَاءِ مَبْنِيّاً من الثُّلاَثِيِّ، ويَحْتمل أنْ يكون من أصليٍّ فَلَمَّا بُنِيَ للمفعول قَامَ الأوَّلُ مقام الفَاعِلِ، وابن أبي عبلة بضمهما مبنياً للفاعل الرُّبَاعي، والأصل على هذه القراءة : سَيُصْلون من أصلي مثل يكرمون من أكرم، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت، فالتقى السَّاكنان فَحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وَضَمُّ ما قبل الواو ليصح و « أصْلَى » يُحتمل أنْ تكون الهمزةُ فيه للدُّخول في الشَّيءِ، فَيَتَعَدَّى لواحدٍ وهو ﴿ سَعِيراً ﴾، وأن تكون للتَّعدية، فالمفعول محذوف أي : يُصْلَونَ أنفْسهم سعيراً.
وأبو حَيْوَةَ بضم الياء وفتح الصَّادِ واللاَّم مُشَدَّدَة مبنياً للمفعول من صَلَّى مضعفاً.
قال أبُو البَقَاءِ : والتّضعيفُ للتكثير.
والصَّلْي : الإيقاد بالنَّارِ، يقال : صَلِيَ بكذا -بكسر العين- وقوله ﴿ لاَ يَصْلاَهَآ ﴾ أي : يَصْلَى بها.
وقال الخليلُ : صَلِيَ الكافرُ النَّارَ أي : قَاسَى حَرَّها وصلاه النَّارَ وَأصْلاَهُ غيرهُ، هكذا قال الرَّاغِبُ. وظاهرُ العِبَارَةِ أنَّ فَعِلَ وَأفْعَل [ بمعنى ]، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذَف.
وقال غيره :« صَلِيَ بالنَّارِ أي : تَسَخَّنَ بقربها » ف ﴿ سَعِيراً ﴾ على هذا منصوبٌ على إسقاط الخَافض. وَيَدُلُّ على أنَّ أصْلَ « يَصْلاها » يَصْلَى بها قول الشاعر :[ الطويل ]
١٧٦٣- إذَا أوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ | فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلى بِهَا وَسَعِيرِهَا |
قال الفرَّاءُ : الصلى : اسم الوقود وهو الصّلاء إذا كسرت مدّت، وإذا فتحت قُصِرَتْ، ومن ضَمِّ الياء فهو من قولهم : أصْلاَهُ الله حَرَّ النَّار إصلاء، قال :﴿ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ﴾ [ النساء : ٣٠ ] وقال :﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ [ المدثر : ٢٦ ].
وقال أبو زَيْدٍ : يقال : صَلِيَ الرَّجلُ النَّارَ يَصْلاَهَا صَلًى وصلاءً، وهُوَ صَالِي النَّارِ، وقوم صالون وصلاء، قال تعالى :﴿ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم ﴾ [ الصافات : ١٦٣ ] وقال :﴿ أولى بِهَا صِلِيّاً ﴾ [ مريم : ٧٠ ] والسّعير في الأصل الجمر المشتعل، وسَعَرْتُ النَّارَ أوقدتها، ومنه : مُسْعِرُ حَرْبٍ، على التشبيه، والمِسْعَرُ : الآلةُ الَّتي تُحَرَّكُ بها النَّارُ.
فصل
روي أنَّهُ لما أنزلت هذه الآية ثقل ذلك على النَّاسِ فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكليَّةِ، فصعب الأمر على اليتامى، فنزل قوله تعالى :﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ] وزعم بعضهم أنَّ هذه الآية صارت منسوخة بتلك وهو بعيد؛ لأنَّ هذه الآية في المنع من الظُّلْمِ وهذا لا يصير منسوخاً، بل المقصود أنَّ مخالطة أموال اليتامى إن كان على وجه الظُّلْم فهو إثم عظيم كما في هذه الآية، وَإنْ كان على وجه الإحسان والتّربية فهو من أعظم [ أبواب ] البرّ، لقوله :﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ].