لما أمر تعالى في الآية المتقدّمة بالإحسان إلى النساء أمَرَ هنا بالتَّغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشةِ فإن ذلك إحسان إليهن في الحقيقة.
وأيضاً وكما يستوفى لخلقه فكذلك يستوفي عليهم وليس في إحكامه محاباة.
وأيضاً فلا يجعل أمر الله بالإحسان إليهنَّ سبباً لترك إقامة الحدود عليهن فيصيرُ ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد.
قوله :﴿ واللاتي ﴾ جمع « التي » في المعنى لا في اللَّفْظِ، لأنَّ هذه صيغٌ [ موضوعة للتّثنية والجمع، وليس بتثنية ولا جمع حقيقةً.
وقال أبُو البَقَاءِ :« اللاتي » جمع « التي » على غير قياس.
وقيل : هي صيغة ] موضوعة للجمع، ومثل هذا لا ينبغي أن يَعُدَّه خلافاً، ولها جموعٌ كثيرة : ثلاثة عشرَ لفظة، وهي : اللاتي واللوَاتِي، واللائِي، وبلا ياءات فهذه ستٌّ، واللاي بالياء من غير همز، واللاء من غير ياء ولا همز، واللَّواء، بالمدِّ، واللَّوا بالقَصْر و « الأُلى » كقوله :[ الطويل ]
١٧٦٨- فَأمَّا الُلَى يَسْكُنَّ غَوْرَ تِهَامَةٍ | فَكُلُّ فَتَاةٍ تَتْرُكُ الْحِجْلَ أفْصَمَا |
١٧٦٩- أولَئِكَ إخْوَانِ ] الَّذِينَ عَرَفْتُهُمْ | وأخدّانُكَ اللاَّءَاتُ زُيِّنَ بِالكَتَمْ |
قال ابن الأنباريِّ : العرب تقولُ في الجمع من غير الحيوان، الّتي، ومن الحيوان : اللاتي، كقوله :﴿ أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً ﴾ [ النساء : ٥ ].
وقال في هذه الآية : اللاتي، واللائي، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد وأمَّا جمع الحيوان ليس كذلك بل كلُّ واحدةٍ منهما غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات فافترقا، ومن العَرَبِ من يسوِّي بين البابين، فيقولُ : كما فعلت الهندات التي من أرمها كذا، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا، والأوَّلُ هو المختار وفي محلِّ « اللاتي » قولان :
أحدهما : الجملة من قوله :﴿ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ ﴾ وجاز دخول الفاء زائدة في الخبر، وإن لم يَجُزْ زيادتها في نحو :« زيدٌ فاضرِبْ » على رأي الجمهور؛ لأن المبتدأ أشبه الشرك في كونه موصولاً عامّاً صلته فِعْلُ مستقبل، والخبرُ مستحقٌّ بالصّلة.
الوجه الثاني : أنَّ الخبر محذوف، والتقدير :« فيما يتلى عليكم حكم اللاتي » فحذف الخبر والمضاف إلى المبتدأ للدلالة عليهما، وأقيمَ المضافُ إلى مُقامَه، وهذا نظيرُ ما فَعَلَهُ سيبويه في نحو :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا ﴾ [ النور : ٢ ] ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا ﴾ [ المائدة : ٣٨ ]، أي فيما يُتلى عليكم حُكْمُ الزانية، ويكون قوله :« فاستشهدوا عليهن » « فاجلدوا » دالاًّ على ذلك الحكم المحذوف لأنه بيان له.
والقولُ الثاني : أنَّه منصوبٌ بفعل مقدر لدلالة السِّياق عليه لا على جهة الاشتغال لما نذكره، والتقدير : اقصدوا اللاتي يأتين، أو تعمَّدوا ولا يجوز أن ينتصب بفعل مضمر يفسره قوله :« فاستشهدوا » فتكون المسألةُ من باب الاشتغال؛ لأنَّ هذا الموصولَ أشبَهَ اسْمَ الشّرطِ، كما تقدَّم تقديره، واسم الشرط ولا يجوز أن ينتصب على الاشتغال، لأنَّهُ لا يعنمل فيه ما قبله فلو نصبناه بفعل فقد لزم أن يعمل فه ما قبله هذا ماق اله بعضهمْ، ويقرُب منه ماق اله أبُو البَقَاءِ فإنَّهُ قال : وإذا كان كذلك، أي : كونه في حُكْمِ الشَّرْطِ لم يحسن النَّصب، لأنَّ تقدير الفعل قبل أداء الشرط لا يجوز وتقديره بعد الصِّلةَ يحتاج إلى إضمار فعل غير قوله « فاستشهدوا » ؛ لأن « استشهدوا » لا يَصِحُّ أن يعمل النصب في « اللاتي »، وفي عبارته مناقشةٌ يطولُ ذكرُهَا.