الإشكال الثَّاني : أن كلمة « إنَّمَا » للحصر، فظاهره يقتضي أن مَنْ أقدم على السوء مع العلم بكونه سوءاً لا يقبل توبته، وذلك باطل بالإجماع.
فالجواب عن الأوَّلِ أنَّ اليهوديَّ اختار اليهوديَّة وهو لا يعلم كونها ذنباً مع أنَّهُ يستحقُّ العقاب عليها.
والجوابُ عن الثَّاني : أنَّ من أتى معصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخَفُّ ممَّنْ أتى بها مع العلم بكونها معصية، فلا جرم خَصَّ الأوَّل بوجوب قبول التّوبة وجوباً على سبيل الوعد والكرم، وأمَّا القسم الثَّاني فلمّا كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التّأكيد في قبول التّوبة فتكون هذه الآية دالّة من هذا الوجه على أن قبول التّوبة غير واجب على اللهِ تعالى.
ومعنى الآية يحتمل وجهين :
الأوَّلُ : أن قوله :﴿ عَلَى الله ﴾ إعلام، فَإنَّهُ يجب على الله قبولها لزوم الكرم والفضل والإحسان وإخبار بأنَّه سيفعل ذلك.
والثَّاني : إنَّما الهداية إلى التَّوْبَةِ والإعانة عليها على اللهِ في حقِّ من أتى بالذَّنب على سبيل الجهالة، ثمَّ تاب قريباً، وترك الإصرار، وأتى بالاستغفار.

فصل


قال الحسن : معنى الآية : التّوبة التي يقبلها اللهُ، فيكون « على » بمعنى عند، وقيل : من الله ﴿ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ﴾.
قال قتادةُ : أجمع أصحاب رسول الله ﷺ أنَّ ما عُصِيَ الله به فهو جهالة عمداً كان أو لم يكن، ولك من عصى الله فهو جاهل.
قال تعالى إخباراً عن يوسف -عليه السلام- :﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين [ فاستجاب لَهُ رَبُّهُ ﴾ [ يوسف : ٣٣، ٣٤ ].
وقال :﴿ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ [ يوسف : ٨٩ ] وقال لنوح -عليه السلام- :﴿ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين ﴾ [ هود : ٤٦ ]
وقال موسى لبني إسرائيل حين قالوا :﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾ [ البقرة : ٦٧ ] ﴿ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين ﴾ [ البقرة : ٦٧ ] والسّبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي؛ لأنَّهُ لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية، فصار كأنَّنه لا علم له.
وقال مجاهدٌ : المراد من الآية العمد.
وقيل : أن يأتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية، إلاَّ أنه يكون جاهلاً بقدر عقابه.
وقيل : أن يأتي بالمعصية مع أنه لا يعلم كونها معصية إلاَّ أنَّهُ كان متمكناً من تحصيل العلم يكون اليهودية ذنباً ومعصية، وكفى ذلك في ثبوت استحقاق العذاب، ويخرج من هذا النَّائم والسّاهي، فإنَّه لو أتى بالقبيح لكنَّه [ ما كان متمكناً ] من العلم بكونه قبيحاً.

فصل


استدلَّ القاضي بهذه الآية على أنَّهُ يجب على اللهِ عقلاً قبول التَّوْبَةِ؛ لأنَّ كلمة « عَلَى » للوجوب؛ ولأنَّا لو حملنا قوله :﴿ إِنَّمَا التوبة عَلَى الله ﴾ على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله :﴿ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ ﴾ فرق؛ لأن قوله هذا أيضاً إخبار عن الوقوع، [ فإذا جعلنا الأوَّلَ إخباراً عن الوجوب، والثَّاني إخباراً عن الوقوع ] ظهر الفرق بين الآيتين وزال التكرار.


الصفحة التالية
Icon