فإن قيل : لما أخبر عن قبول التّوبة وكان ما أخبر الله تعالى وقوعه واجب الوقوع لزم منه ألاَّ يكون فاعلاً مختاراً.
فالجوابُ : أنَّ الإخبارِ عن الوقوع تبع للوقوع والوقوع تبع للإيقاع، والتبع لا يغير الأصل، فكان فاعلاً مختاراً في ذلك الإيقاع، وأمَّا قولكم بأن وقوع التَّوبة من حيثُ إنَّهَا هي مؤثرة في وجوب القبول على الله وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق.
قوله :﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك ﴾ فهذا هو الشّرطُ الثّاني.
قال السدي والكلبي : القريب أن يتوب في صحته قبل مرض موته.
وقال عكرمة : قبل الموت.
وقيل : قبل أنْ يحيط السّوء بحسناته فيحبطها. وقال الضَّحَّاكُ : قبل مُعَاينة ملك الموت. قوله :﴿ مِن قَرِيبٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون « من » لابتداء الغاية، أي : تبتدئ التَّوبة من زمان قريب من زمان المعصية لئلاّ يقع في الإصْرارِ، وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الكوفيين، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون « من » لابتداء الغاية في الزَّمَانِ، ويتأوَّلون ما جاء منه، ويكون مفهوم الآية أنَّه لو تاب من زمان بعيدٍ لم يدخل في مَنْ خُصَّ بكرامةِ قَبُولِ التّوبة على اللهِ المذكورة في هذه الآية، بل يكون داخلاً فيمن قال فيهم ﴿ عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٢ ].
والثاني : أنَّهَا للتّبعيض أي : بعض زمانٍ قريب يعني أي جُزْء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتّوبة فيه، فهو تائبٌ من قريب.
وعلى الوجهين ف « مِنْ » متعلقة ب « يتوبون »، و « قريب » صِفَةٌ لزمان محذوف، كما تقدم تقريره، إلاَّ أنَّ حّذْفَ هذا الموصوف وإقَامةَ هذه الصفةِ مُقَامة ليس بقياسٍ، إذ لا يَنْقَاسُ الحَذْفُ إلاَّ في صور.
منها أن تكون الصفةُ جَرَتْ مَجْرى الأسماء الجوامد، كالأبْطَحِ والأبرق، أو كانت خاصةً بجنس الموصوف، نحو : مررت بكاتبٍ، أو تقدَّم ذِكْرُ موصوفها، نحو : اسقني ماءً ولَوْ بَارِداً، وما نحن فيه ليس شيئاً من ذلك.
وفي قوله :﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ ﴾ إعلامٌ بِسَعَةِ عَفْوِهِ، حيثُ أتى بحرف التّراخي والفاء في قوله :﴿ فأولئك ﴾ مُؤْذِنَةٌ بتَسَبُّبِ قَبُولِ الله تَوبتهم إذا تابوا من قريب، وضَمَّنَ ﴿ يَتُوبُونَ ﴾ معنى يَعْطِفُ فلذلك [ عَدَّى ] ب « على ».
وأما قوله :﴿ إِنَّمَا التوبة عَلَى الله ﴾ فَراعَى المضاف المحذوف، إذا التّقدير : إنَّما قبولُ التَّوبَةِ على اللهِ، كذا قال الشَّيخ وفيه نَظَرٌ.
فصل
معنى قوله :﴿ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ ﴾ يعني أنّ العبد الَّذي هذا شأنه إذا أتى بالتَّوبة قبلها منه، فالمراد بالأوَّل التّوفيق إلى التوبة، وبالثَّاني قبول التّوبة.
وقوله :﴿ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً ﴾ أي : أنَّهُ إنَّما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشّهوة والغضب والجهالة عليه « حكيماً » بأن العبد لما كان من صفته ذلك إنَّه تاب عنها من قريب فإنه يقبل توبته.