أراد - عليه السلام - انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ، وأفَادَ هذا المَعْنَى تقديم « كُلّ »، قالوا : ولو قال :« لَمْ يَكُن كُلُّ ذَلِك » لاحتمل الكلام أنَّ البعض غير مَنْفِي، وهذه المَسْألَةُ تُسَمَّى عموم السَّلْب، وعكسها نحو :« لَمْ أصْنَع كلَّ ذلك » يُسمَّى سَلْبَ العُمُوم، وهذه مسألة مُفِيدَةٌ، وإن كان بَعْضُ النَّاسِ قد فَهِم عن سيبويه غير ما [ ذكرت لك ].
ثُمَّ قال ابن عطيَّة : وهو قَبِيحٌ - يعني : حذف العَائِد من الخَبَرِ - وإنَّما يُحْذَف الضَّمِير كثيراً من الصِّلَةِ، ويحذف أقَلّ مِنْ ذلك من الصِّفَة، وحذْفُه من الخبر قَبِيحٌ.
ولكنَّه رجَّح البَيْتَ على هذه القِرَاءةِ بِوَجْهَيْنِ.
أحدهما : أنَّه ليس في صَدْرِ قوله [ ألِف ] استفهام تَطْلُب الفعل، كما هي في « أفَحُكْمَ ».
والثاني : أن في البيت عِوَضاً من « الهَاء » المحذُوفَة، وهو حَرْف الإطلاَق أعني « اليَاء » في « اصنَعِي »، فتضعف قِرَاءة من قَرَأ « أفحكمُ الجاهلِيَّة يَبْغُونَ »، وهذا الَّذي ذكره ابن عطيَّة في الوجهِ الثَّانِي كلام لا يُعْبَأ به.
وأمَّا الأوَّل فَقَرِيبٌ من الصَّواب، لكنه لم يَنْهَضْ في المنع ولا في التَّقْبِيح، وإنَّمَا يَنْهَضُ دليلاً على الأحْسَنِيّةِ، أو على أنّ غَيْرَه [ أوْلى ].
وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهُم الخِلاف فيها بالنِّسْبَة إلى نَوْع، ونفي الخِلاف عنها، بل حكي الإجْمَاع على الجوازِ بالنِّسْبَة إلى نوع آخر، فحكي الإجْمَاع فيما إذا كان المُبْتَدأ لفظ « كل »، أو ما أشبَهَهَا في العُمُوم والافْتِقَار، فأمَّا « كُل » فنحو :« كلُّ رَجُلٍ ضَرَبْت »، ويقوِّيه قراءة ابن عَامِر :« وكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى » [ النساء : ٩٥ ] ويريد بما أشْبَه « كُلاًّ » نحو :« رَجُلٌ يَقُولُ الحَقَّ انْصُرْ »، أي : انْصُرْهُ، فإنه عامٌّ يفتَقِرُ إلى صِفَة، كما أنَّ « كلاً » عامة، وتَفْتَقِرُ إلى مُضَافٍ إلَيْه.
قال :« وإذا لم يكن المُبْتَدأ كذلك، فالكُوفِيُّون يَمْنَعُون حذْفَ العَائِد، بل يَنْصُبُون المتقدِّم مَفْعُولاً به، والبصريُّون يُجِيزُون :» زَيْدٌ ضَرَبْتُ « أي : ضربْتُهُ »، وذكر القراءة.
وتعالى بعضهم فقال :« لا يجُوزُ ذلك »، وأطلق، إلا في ضرورةِ شِعْر كقوله :[ السَّريع ]
١٩٧٨- وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا | بِالحَقِّ، لا يُحْمَدُ بِالبَاطِلِ |
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدِّمَيْن : أن يكون « يَبْغُون » ليس خبراً لِلْمُبْتَدأ، بل هو صِفَةُ لموصُوفٍ محذُوفٍ، وذلك المحذوفُ هو الخَبَرُ، والتَّقْدير :« أفحكم الجاهلية حُكمٌ يَبْغُون »، وحذفُ العَائِد هنا أكثر، لأنه كما تقدَّم يكثر حذفُه من الصِّلة، ودونَهُ من الصِّفَةِ، ودونَهُ من الخَبَرِ، وهذا ما اخْتَارَهُ ابن عطيَّة، وهو تَخْرِيجٌ مُمْكن، ونظَّرَهُ بقوله تعالى :