والثاني : أنَّها للبيان فتتعلَّق بمحْذُوف، كَهِي في « سقياً لَكَ » و « هَيْتَ لَكَ »، وهو رأي الزَّمَخْشَرِي، وابنُ عطيَّة قال شيئاً قَرِيباً منه، وهو أنَّ المعنى :« يُبَيِّنُ ذلِكَ ويُظْهِره لِقَوْم ».
الثالث : أنَّها بمعنى « عِنْد »، أي : عند [ قَوْمٍ ]، وهذا لَيْسَ بِشَيْء. ومتعلَّقُ « يُوقِنُون » يجُوزُ أن يُرادَ، وتقديرُه : يُوقِنُونَ باللَّهِ وبحُكْمهِ، أو بالقُرْآن، ويجُوزُ ألاَّ يُرَاد على مَعْنَى [ وقُوع الإيقان ]، وإليه مَيْلُ الزَّجَّاج، فإنَّهُ قال :« يُوقِنُون » :« يَتَبَيَّنُون عدل اللَّهِ في حُكْمِهِ » فإنَّهم [ هم الذين ] يَعْرِفُون أنَّه لا أحَد أعْدَل من اللَّهِ حُكْماً، ولا أحْسَن مِنْهُ بَيَاناً.

فصل


قال القرطُبِيّ : روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عن ابن أبِي نُجَيْح، عن طَاوُوس قال : كان إذا سألُوه عن الرَّجُل يُفَضِّل بعض ولده على بَعْضِ يَقْرأ هذه الآية ﴿ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ ﴾، فكان طاووس يقول : لَيْس لأحدٍ أنْ يُفَضِّل بَعْضَ ولدِه على بعضٍ، فإن فعل لا ينفذُ ويفسخ، وبه قال أهْلُ الظَّاهِرِ، وهو مَرْوِيٌّ عن أحْمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه -، وكرهه الثَّوْري، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي واللَّيْث والشَّافِعِي وأصحاب الرَّأي، واستَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في نَخْلَةِ عائِشَةٍ دون سائر ولدِه، واستدَلَّ الأوَّلُون بقوله - ﷺ - لبَشِير :[ « ألَكَ ولد سِوَى هذا » ؟ قال : نعم، فقال « أكُلّهم وهَبْتَ لهُ مِثْلَ هذا »، فقال : لا، قال ] « فلا تُشهدْني إذَنْ فإنِّي لا أشْهَدُ على جَوْرٍ »، وفي رِوَاية « إنِّي لا أشْهَدُ إلاَّ على حَقٍّ ».
قالُوا : ومَا كان جَوْراً وغير حقٍّ فهو بَاطِل لا يجُوز، وقوله :« أشْهِدْ على هذا غَيْرِي » ليس إذْناً في الشَّهَادَة، وإنَّما هُوَ زَجْرٌ عَنْهَا؛ لأنَّه - عليه السلام - قد سمَّاها [ جَوْراً ] وامتنع من الشَّهَادَة فيه، فلا يُمْكِن أن يَشْهَد أحَدٌ من المُسْلِمين، وأمَّا فعل أبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - فلا يُعَارضُ به قول النَّبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ولعلَّه كان [ قد ] نحل أولادهُ كُلَّهم مثل ذلك.
فإن قيل : الأصْلُ تصرُّف الإنْسَان في مَالِهِ مُطْلَقاً، قيل له : الأصل الكُلِّي والواقِعَة المُعَيَّنَةُ المُخَالِفَة لذلك الأصل لا تعارض بَيْنَهُمَا كالعُمُوم والخُصُوصِ.


الصفحة التالية
Icon