وذكرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الآيَة احْتِمالاتٌ [ أخَر ].
أحدها : أنَّ الجملة من قوله « لَهُم مَّغْفِرَةٌ » [ بيان للوعد ]، كأنَّه قال : قدم لهم وَعْداً، فَقِيلَ : أيُّ شيء وَعَدَهُ؟ فقال :﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لها أيضاً، وهذا أوْلَى من الأوَّل؛ لأنَّ تفسير المَلْفُوظِ به أوْلَى من ادِّعاء تَفْسِير شَيْءٍ مَحْذُوف.
الثاني : أنَّ الجملة مَنْصُوبةٌ بقول محذوف، كأنَّه قيل : وعدهُم، وقال لهم :« مَغْفِرَة ».
الثالث : إجراء الوَعْدِ مجرى القَوْل؛ لأنَّه ضَرْبٌ منه، ويَجْعَل « وَعَدَ » واقعاً على الجُمْلَةِ الَّتِي هي قوله :« لَهُمْ مَغْفِرَةٌ »، كما وقع « تَرَكْنَا » على قوله تعالى :﴿ سَلاَمٌ على نُوحٍ ﴾ [ الصافات : ٧٩ ] كأنه قيل : وعدهَمُ هذا القَوْل، وإذا وَعَدَهُمْ من لا يَخْلِفُ المِيعاد فَقَدْ وعدهم مَضْمُونَهُ من المَغْفِرَة والأجْرِ العَظِيم، أي : وعدهُم بهذَا المَجْمُوع، وإجراء الوَعْدِ مَجْرى القَوْل مذهب كُوفِيٌّ.
ثم ذكر وَعِيدَ الكُفَّار فقال :﴿ والذين كَفَرُواْ ﴾ الآية.
« الذين كفروا » مبتدأ، و « أولَئِكَ » مُبْتَدأ ثانٍ، و « أصْحَابُ » خبره، والجُمْلَة خَبَرُ الأوَّل، وهذه الجُمْلَة مُسْتَأنَفَةٌ، آُتِي بها اسمية دلالة على الثُّبُوتِ والاسْتِقْرَارِ، ولم يُؤتَ بِها في سِيَاقِ الوعيد، كما أتى بالجُمْلَةِ قَبْلَها في سِيَاقِ الوَعْدِ حَسْماً لرَجَائهم، وأجاز بَعْضُهُمْ أن تكون هذه الجُمْلَة داخِلَةً في حَيِّز الوَعْد على ما تقدم تقريره في الجُمْلَةِ قبلها.
قال : لأنَّ الوعيدَ اللاَّحِقَ بأعْدائِهم ممَّا يَشْفِي صُدورهُمْ، ويُذْهِب ما كانوا يَجِدُونَهُ من أذَاهُمْ، ولا شَكَّ أن الأذى اللاَّحقِ للعَدُوِّ، مما يَسُرُّ، ويفرح ما عند عَدُوِّهِ، وفيه نظر، فإن الاسْتِئنَاف وافٍ بهذا المَعْنَى، فإن الإنْسَان إذا سَمِعَ خبراً يَسُوء عَدُوَّهُ سُرَّ بذلك، وإن لم يُوعد به، وقد يتقوى [ صاحب ] هذا القول المُتقدِّم بأن الزَّمَخْشَرِيَّ قد نحَا إلى هذا المَعْنَى في سورة ﴿ سُبْحَانَ ﴾ [ الإسراء : ٩، ١٠ ].
قال : فإن قُلْتَ، علام عَطَف ﴿ وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الإسراء : ١٠ ].
قلت : على ﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ﴾ [ الإسراء : ٩ ] على أنه بُشرى للمؤمنين ببشارتيْن بثوابِهِم، وبعقَابِ أعْدَائهم، فجعل عِقاب أعدائِهِم داخِلاً في حَيِّز البشارَة فالبشارة هناك كالوَعْدِ هُنَا.
وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخُلود في النَّار لَيْس إلا للكُفَّار؛ لأنَّ قوله :﴿ أولئك أَصْحَابُ الجحيم ﴾ يفيدُ الحَصْر، والمُصَاحَبَةُ تَقْتَضِي المُلازَمَةَ، كما يقال : أصْحَاب الصَّحراء، أي : المُلازِمُون لها.


الصفحة التالية
Icon