الثاني : أنه في محل جر، كما تقدَّم بيانُه عن مكيٍّ والمعنى : أنبئكم عن من لَعَنَهُ الله.
الثالث : أنه في محلِّ نصبٍ على البَدَل من محل « بِشَرٍّ ».
الرابع : أنه في محلِّ نصبٍ على أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر يدل عليه « أنَبِّئُكُمْ »، تقديره : أعَرِّفُكُمْ من لَعَنَهُ الله، ذكره أبو البقاء، و « مَنْ » يُحْتَملُ أن تكون موصولةً، وهو الظاهرُ، ونكرةً موصوفةً، فعلى الأوَّل : لا محلَّ للجملة التي بعدها، وعلى الثاني : لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على « مَنْ » بأحد الأوجه السابقة، وقد حمل على لفظها أولاً في قوله « لَعَنَهُ » و « عَلَيْهِ »، ثم على معناها في قوله :« مِنْهُمُ القِرَدَة »، ثم على لفظها في قوله :« وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ » ثم على لفظها في قوله :« أولَئِكَ »، فجَمَع في الحمل عليها أربعَ مرَّاتٍ.
و « جَعَلَ » هنا بمعنى « صَيَّرَ » فيكون « مِنْهُمْ » في محل نصب مفعولاً ثانياً، قُدِّم على الأول فيتعلق بمحذوف، أي : صَيَّر القردةَ والخنازيرَ كائِنِينَ منهم، وجعلها الفارسيُّ في كتاب « الحُجَّة » له بمعنى « خَلَقَ »، قال ابن عطية :« وهذه منه - رحمه الله - نزعةٌ اعتزاليَّة؛ لأن قوله :» وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ «، تقديره : ومن عَبَد الطَّاغُوت، والمعتزلةُ لا ترى أن الله تعالى يُصَيِّرُ أحَداً عابد طاغُوتٍ » انتهى، والذي يُفَرُّ منه في التَّصْييرِ هو بعينه موجودٌ في الخَلْق.
وجعل أبو حيان قوله تعالى ﴿ مَن لَّعَنَهُ الله ﴾ إلى آخره - مِنْ وَضْعِ الظاهرِ موضعَ المضْمَر؛ تنبيهاً على الوصف الذي به حصل كونهم شرًّا مثوبةً، كأنه قيل : قل هَلْ أنبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلك عند الله مَثُوبَةً؟ أنتم، أيْ : هُمْ أنْتُمْ، ويَدُلُّ على هذا المعنى قوله بعدُ :﴿ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا ﴾ [ المائدة : ٦١ ]، فيكون الضميرُ واحداً، وجعل هذا هو الذي تقتضيه فصاحةُ الكلام، وقرأ أبيُّ بْنُ كَعْبٍ وعبد الله بْنُ مَسْعُود - رضي الله عنهما - :« من غضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَجَعَلهُمْ قِرَدَةً » وهي واضحةٌ.
فصل
المُرادُ ﴿ مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾ يعني : اليَهُودَ، ﴿ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة ﴾ : وهم أصْحَابُ السَّبْتِ، و « الخَنَازِير » : وهم كُفَّارُ مائِدة عيسى - ﷺ -، ورُوِي [ عن ] عَلِيّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّ الممسُوخِين مِنْ أصْحَاب السَّبْت فشبابُهُم مُسِخُوا قِرَدَةً، وَمَشَايِخُهُمْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ.
قوله تعالى :« وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ » في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءة، اثنتان في السَّبْعِ، وهما « وعَبَدَ الطَّاغُوت » على أنَّ « عَبَدَ » فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للفاعل، وفيه ضميرٌ يعودُ على « مَنْ » ؛ كما تقدَّم، وهي قراءة جمهور السَّبْعة [ غيرَ حَمْزة ] أي : جعل منهم من « عَبَدَ الطَّاغُوتَ » أي : أطَاعَ الشَّيْطَان فيما سَوَّل له، ويؤيده قراءة ابن مسعُودٍ « وَمَنْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ ».