وقوله :﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ ﴾ يحتمل الخبرَ المَحْضَ، ويحتمل أن يُرادَ به الدعَاءُ عليهم أي : أمْسَكَتْ أيْديهم عن الخَيْرَات، والمعنى : أنَّه - تعالى - يُعَلِّمُنَا الدُّعَاءَ عليهم، كما عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ على المُنافقين في قوله تعالى :﴿ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً ﴾ [ البقرة : ١٠ ] فإن قيل : كان يَنْبَغي أن يُقَال :« فَغُلَّتْ أيديهم ».
فالجَوَاب : أنَّ حَرْفَ العَطْف وإنْ كان مُضْمَراً إلا أنَّهُ حُذِفَ لفائدة، وهي أنَّه لما حُذِفَ كان قوله « غُلَّتْ أيْدِيهم » كالكلام المبتدأ به ففيه [ زيادة ] قُوَّة؛ لأنَّ الابْتِدَاء بالشَّيْء يَدلُّ على شِدَّةِ الاهْتِمَام به وقُوَّة الاعْتِنَاء، ونَظِيرُه في الحَذْفِ والتَّعْقِيب قوله تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾ [ البقرة : ٦٧ ] ولَمْ يَقُل : فقالوا أتَتَّخِذنَا.
وقيل : هو من الغلِّ يوم القِيَامَةِ في النَّار كقوله تعالى :﴿ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل ﴾ [ غافر : ٧١ ].
« ولُعِنُوا » عُذِّبوا « بما قالوا » فَمِنْ لَعْنِهم - أنَّهُ مَسَخَهُمْ قردة وخَنَازِير، وضُرِبَت عليهمُ الذِّلَّة والمَسْكَنَة في الدُّنْيا، وفي الآخِرَة بالنَّار.
قوله تعالى :﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾.
وفي مصحف عبد الله :« بُسُطَانِ » يقال :« يَدٌ بُسُطٌ » على زنة « نَاقَةٌ سُرُحٌ »، و « أحُدٌ » و « مِشْيَةٌ سُجُحٌ »، أي : مبسوطة بالمعروف، وقرأ عبد الله :« بَسِيطَتَانِ »، يقال : يَدٌ بسيطةٌ، أي : مُطْلَقَةٌ بالمَعْرُوف.
[ وغَلُّ ] اليدِ وبَسْطُهَا هنا استعارةٌ للبُخْل والجودِ، وإن كان ليس ثَمَّ يدٌ ولا جارحة، وكلامُ العربِ ملآنُ من ذلك، قالتِ العربُ :« فلانٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ » ؛ قال :[ الطويل ]
٢٠٠٣- يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ، فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ | وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ |
وقال أبو تمام :[ الطويل ]
٢٠٠٤- تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حَتَّى لَوَ أنَّهُ | دَعَاهَا لقَبْضٍ لَمْ تُطِعْهُ أنَامِلُهْ |
وقد استعارت العربُ ذلك حيثُ لا يدَ ألبتة، ومنه قولُ لبيدٍ :[ الكامل ]
٢٠٠٥-................... | إذْ أصْبَحَتَ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمامُهَا |
وقال آخر :[ الكامل ]
٢٠٠٦- جَادَ الحِمَى بَسْطُ اليَدَيْنِ بوابِلٍ | شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاعُهُ ووِهَادُهُ |
وقالوا :
« بَسَطَ اليأسُ كفَّيْهِ في صَدْرِي »، واليأسُ معنًى، لا عينٌ، وقد جعلوا له كفَّيْنِ مجازاً، قال الزمخشريُّ :
« فإن قلتَ : لِم ثُنِّيَتِ اليدُ في ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾، وهي في ﴿ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ ﴾ مفردةٌ؟ قلتُ : ليكونَ ردُّ قولهم وإنكارُه أبْلَغ وأدلَّ على إثبات غايةِ السَّخَاءِ له، ونَفْيِ البُخْلِ عنه، وذلك أنَّ غايةَ ما يبذله السَّخِيُّ مِنْ ماله بنفسِه : أن يعطيَه بيديه جميعاً، فبنى المجازَ على ذلك ».
فصل
اعلم أنه قد وَرَدَ في القرآن آياتٌ كثيرة ناطِقَةٌ بإثْبَات اليد، فتارَةً ذكر اليد من غير بيان عددٍ كقوله تعالى :
﴿ يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ الفتح : ١٠ ]، وتارةً ذكر اليدين كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى لإبليس عليه اللعنة
﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾