وقوله تعالى :﴿ إلى يَوْمِ القيامة ﴾ متعلِّقٌ ب « ألقَيْنَا »، ويجوز أن يتعلَّق بقوله :« والبغْضَاءَ »، أي : إنَّ التباغُضَ بينهم إلى يوم القيامة، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بالعداوةِ؛ لئلا يَلْزَم الفصْلُ بين المصدَرِ ومعموله بالأجنبيِّ، وهو المعطوفُ؛ وعلى هذا : فلا يجوزُ أن تكون المسألةُ من التنازُع؛ لأن شرطه تسلُّطُ كلٍّ من العاملَيْن، والعاملُ الأولُ هنا لو سُلِّط على المتنازع فيه، لم يَجُزْ للمحذورِ المذكور، وقد نَقَل بعضُهُمْ : أنه يجوز التنازُعُ في فعلي التعجُّبِ مع التزامِ إعمال الثاني؛ لأنه لا يُفْصَل بين فعْلِ التعجُّبِ ومعموله، وهذا مثلُه، أيْ : يُلْتَزَمُ إعمالُ العامل الثاني، وهو خارجٌ عن قياسِ التنازُعِ، وتقدَّم لك نظيره، والفرقُ بين العداوة والبغضاء : أن العداوَةَ كلُّ شيء مشتهرٌ يكون عنه عَمَلٌ وحَرْبٌ، والبغضاءُ لا تتجاوزُ النفُوسَ، قاله ابن عطيَّة وقال أبو حيان :« العداوة أخَصُّ من البغضاء؛ لأنَّ كلَّ عَدُوٍّ مُبْغَضٌ، وقد يُبْغَضُ مَنْ لَيْس بعدُوٍّ ».
قوله تعالى :﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله ﴾، وهذا نوْع آخر من أنْوَاع المِحَنِ في اليهُود، وهو أنَّهُم كلّما همُّوا بأمر من الأمُور جُعِلوا فيه خَاسِرِين خَائِبِين مَقْهُورين مَغْلُوبين.
قال المفسرون : يعني اليهود أفسدوا وخَالَفُوا حُكْمَ التَّوْراة، فبعث الله عليْهم بُخْتَنَصَّرَ ثُمَّ أفْسَدُوا فَبَعَثَ عَلَيْهَم طيطوس الرُّومِي، ثم أفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عليهمُ المجُوسَ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهمُ المُسْلِمين.
وقيل : كُلَّمَا أجْمَعُوا أمْرَهُمْ ليُفْسِدوا أمْرَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأوْقَدُوا ناراً لِمُحاربته أطْفَأهَا اللَّهُ، فردَّهم وقَهَرَهُم ونصر دينَهُ ونبيَّهُ، وهذا قول الحَسَن وقال قتادة : هذا عامٌّ في كل حرب طَلَبْتَهُ اليهود، فلا تَلْقَى اليهود في بلد إلا وجَدْتَهُم من أذَلِّ النَّاسِ.
قوله تعالى :« لِلْحَرْبِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب « أوْقَدُوا »، أي : أوقدوها لأجْلِ الحرب.
والثاني : أنه صفة ل « نَاراً » فيتعلَّق بمحذوف، وهل الإيقادُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ قولان. و « أطْفَأهَا الله » جواب « كُلَّمَا »، وهو أيضاً حقيقةٌ أو مجازٌ؛ على حسب ما تقدَّم، والحربُ مؤنثةٌ في الأصل مصدر وقد تقدَّم الكلام عليها في البقرة، وقوله :« فَسَاداً » قد تقدَّم نظيره [ الآية ٣٣ من المائدة ]، وأنه يجوز أن يكون مصدراً من المعنى؛ وحينئذ لك اعتباران : أحدهما : ردُّ الفعل لمعنى المصدر، والثاني : ردُّ المصدر لمعنى الفعْلِ، وأن يكون حالاً، أي : يَسْعَوْن سعيَ فسادٍ، أو : يُفْسِدُونَ بسعيهم فَسَاداً، أو : يَسعوْن مُفْسِدين، وأن يكون مفعولاً من أجله، أي : يَسْعَوْنَ لأجْلِ الفساد والألف واللام في « الأرض » يجوزُ أن تكون للجنس وأن تكون للعهد.
ثم قال :﴿ والله لاَ يُحِبُّ المفسدين ﴾، وهذا يدُلُّ على أنَّ السَّاعي في الأرْضِ بالفَسَاد مَمْقُوتٌ عِنْدَ اللَّهِ.