فصل
المُراد بالأمَّة المُقْتَصِدَة : مؤمِنُو أهْلِ الكِتَاب، كعَبْدِ اللَّهِ بنْ سلام من اليَهُود والنَّجَاشِيِّ من النَّصَارى، « مُقْتَصِدَة » أي : عادِلَةٌ غير غَالِية ولا مقصِّرة، والاقتصادُ في اللُّغَة : الاعتِدَال في العمل من غير غُلُوِّ ولا تَقْصِير.
وقيل : المُرَاد بالأمَّةِ المقْتَصِدَةِ : كُفَّارُ أهل الكتاب الذين يكنون عُدُولاً في دينهِم، ولا يكون فيهم عِنَادٌ شديدٌ ولا غِلْظَةٌ، كما قال تعالى :﴿ وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ].
قوله تعالى :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾، وفيه معنى التعجُّبِ، كأنَّه قيل [ كثير ] منهم ما أسْوَأ عََمَلَهم.
والمراد بهم : الأجْلاف المُبْغِضُون، مثل كَعْبِ بن الأشْرفِ وأصحابه و « سَاءَ » هذه يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن تكون تعجباً؛ كأنه قيل : ما أسوأ عملهُمْ، ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره، ولكن النحاة لمَّا ذكروا صيغَ التعجُّبِ لم يَعُدُّوا فيها « سَاءَ »، فإن أراد من جهةِ المعنى، لا من جهة التعجُّب المبوبِ له في النحوِ فقريبٌ.
الثاني : أنها بمعنى « بِئْسَ » فتدلُّ على الذَّمِّ؛ كقوله تعالى :﴿ سَآءَ مَثَلاً القوم ﴾ [ الأعراف : ١٧٧ ].
وقال البَغَوِي : بئس ما يَعْمَلُون، بِئْس شَيْئاً عملهم.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : عملوا بالقَبِيحِ مع التَّكْذِيب بالنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
وعلى هذين القولين ف « سَاء » غيرُ متصرِّفة، لأن التعجُّب وباب المدح والذمِّ لا تتصرَّفُ أفعالُهما.
الثالث : أن تكون « سَاء » المتصرِّفة؛ نحو : سَاءَ يَسُوءُ، ومنه :﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ [ الإسراء : ٧ ] ﴿ سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ تبارك : ٢٧ ]، والمتصرِّفةُ متعديةٌ؛ قال تعالى :﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ [ الإسراء : ٧ ] فإن قيل فأيْنَ مفعولُ هذه؟ قيل : هو محذوفٌ، تقديرُه : ساء عَملُهُم المؤمنين، والَّتِي بمعنى « بِئْسَ » لا بدَّ لها من مميِّز، وهو هنا محذوفٌ، تقديره : سَاءَ عَمَلاً الذي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ.