وقال الواحديُّ : أي : إنْ يَتْرُك إبلاغَ البعْضِ، كان كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ؛ لأنَّ تَرْكه البعضَ مُحْبِطٌ لإبلاغِ ما بلَّغَ، وجُرْمَهُ في كتمانِ البعضِ كجُرْمِهِ في كتمان الكلِّ؛ في أنه يستحقُّ العقوبة من ربِّهِ، وحاشا لرسُولِ الله ﷺ أن يكتُمَ شيئاً مِمَّا أوْحَى الله تعالى إليه، وقد قالت عائشةُ - رضي الله عنها - :« مَنْ زَعَمَ أنَّ رسُولَ الله ﷺ كَتَمَ شَيْئاً من الوحْي، فقَدْ أعْظَمَ عَلى الله الفِرْيَةَ، والله تعالى يقول :﴿ ياأيها الرسول بَلِّغْ ﴾، ولو كَتَم رسُول الله ﷺ شَيْئاً من الوحْيِ، لَكَتَمَ قولَهُ تعالى :﴿ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] الآية »، وهذا قَريبٌ من الأجوبة المتقدِّمة؛ ونظيرُ هذه الآيةِ في السؤالِ المتقدِّم الحديثُ الصحيحُ عن عُمر بن الخطَّاب - رضي الله تعالى عنه - :« فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتَهُ إلى الله ورسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله ورسُولِه » فإنَّ نفس الجواب هو نفسُ الشرطِ، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقديرٍ تحْصُلُ به المغايرةُ، فقالوا :« تقدِيرُهُ : فمنْ كانَتْ هجرتُهُ إلى الله ورسُولِهِ نيَّةً وقصْداً فهجرتُه إلى الله ورسُولِهِ حُكْماً وشَرْعاً، ويمكنُ أن يأتِيَ فيه جوابُ الرَّازِيِّ الذي اختاره.
وقرأ نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر :» رِسَالاَتِهِ « جَمْعاً، والباقون :» رِسَالَتَهُ « بالتوحيد، ووجهُ الجمْع : أنه عليه السَّلام بُعِثَ بأنْواعٍ شتَّى من الرسالة؛ كأصول التوحيد، والأحكام على اختلاف أنواعها، والإفرادُ واضحٌ؛ لأنَّ اسمَ الجنس المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك، وقد قال بعض الرسُلِ :﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي ﴾ [ الأعراف : ٦٢ ]، وبعضُهم قال :﴿ رِسَالَةَ رَبِّي ﴾ [ الأعراف : ٧٩ ] ؛ اعتباراً للمعنيين.
قوله تعالى :﴿ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾ أي : يَحْفَظُكَ، ويمنعُكَ من النَّاسِ.
» رُوِيَ أنَّه - ﷺ - نزل تَحْتَ شَجَرَةٍ في بَعْضِ أسْفَارِه وعلق سَيْفَه عليها، فأتَاه أعْرَابِيٌّ - وهو نَائِمٌ -، فأخذ سَيْفَهُ واخْتَرَطَهُ، وقال : يا مُحَمَّدُ من يَمْنَعُك مِنِّي؟ فقال :« اللَّهُ » فرعدت يَدُ الأعْرَابِيِّ، وسقطَ من يده، وضرب برأسه الشَّجَرة حتى انْتَثَر دِمَاغُهُ «، فأنزل اللَّهُ تعالى ﴿ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾.
فإن قيل : كيْفَ الجَمْعُ بين هذه الآية وبين ما رُوِيَ أنَّه شُجَّ في وجْهِه يوم أحد وكسرت رَبَاعِيَّتُهُ، وأوذي بِضُرُوبٍ من الأذَى.
فالجواب من وجوه :
فقيل : يَعْصِمُك من القَتْلِ، فلا يَصِلُوا إلى قَتْلِك.
وقيل : نزلَتْ هذه الآية بعدمَا شُجَّ رَأسُهُ يَوْم أُحُدٍ؛ لأنَّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القُرْآن.
والمُراد ب » النَّاس « هاهنا : الكفار لقوله :﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين ﴾.
وعن أنَسٍ رضي الله عنه :
» كان رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يَحْرُسُه سَعْدٌ وحُذَيْفَة حتى نَزَلتْ هذه الآية، فأخْرَجَ رَأسَهُ مِنْ قُبَّةِ أديمٍ فقال :« انْصَرِفُوا أيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي مِنَ النَّاسِ ».
وقيل : المُراد والله يَخُصُّكَ بالعِصْمَة من بين النَّاسِ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - معصُومٌ ﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين ﴾.