الوجه الرابع : أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم « إنَّ » ؛ لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء، فلمَّا دخلَتْ عليه، لم تُغَيِّر معناه، بل أكدَتْهُ، غايةُ ما في الباب : أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً، ولذلك اختصَّتْ هي و « أنَّ » بالفتح، ولكن على رأي بذلك، دون سائر أخواتها؛ لبقاء معنى الابتداء فيها، بخلاف « لَيْتَ ولعلَّ وكَأنَّ »، فإنه خرج إلى التمنِّي والتَّرَجِّي والتشبيه، وأجرى الفراء الباب مُجْرًى واحداً، فأجاز ذلك في لَيْتَ ولعلَّ، وأنشد :[ الرجز ]
٢٠١٣- يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ | فِي بَلَدٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ |
فأتى ب
« أنْتِ »، وهو ضميرُ رفع نسقاً على الياء في
« لَيْتَنِي »، وهل يَجْري غيرُ العطْفِ من التوابع مَجْرَاهُ في ذلك؟ فذهَبَ الفرَّاء ويونُسُ إلى جوازِ ذلك، وجعلا منه قوله تعالى :
﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب ﴾ [ سبأ : ٤٨ ] فرفعُ
« علاَّم » عندهما على النعْتِ ل
« رَبِّي » على المحلِّ، وحكوا
« إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ »، وغلَّط سيبويه مَنْ قال من العرب :
« إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ »، وأخذ الناس عليه في ذلك من حيْثُ إنه غَلَّط أهْلَ اللسان، وهم الواضعُون أو المتلقُّون من الواضعِ، وأجيبَ بأنهم بالنسبة إلى عامَّة العرب غالطُونَ، وفي الجملة : فالناسُ قد رَدُّوا هذا المَذهبَ، أعني : جواز الرفع عطفاً على محلِّ اسم
« إنَّ » مطلقاً، أعني قبل الخبر وبعده، خَفِيَ إعرابُ الاسم أو ظهر، ونقل بعضهم الإجماع على جوازِ الرفْعِ على المحلِّ بعد الخبر، وليس بَشْيء، وفي الجملة : ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ : مذهبُ المحقِّقين : المنعُ مطلقاً، مذهبُ بعضهم : التفصيلُ قبل الخَبَر؛ فيمتنعُ، وبعده؛ فيجوز، ومذهب الفراء : إنْ خَفِيَ إعرابُ الاسمِ، جاز ذلك؛ لزوال الكراهية اللفظية، وحُكِيَ من كلامهم :
« إنَّكَ وَزَيْد ذَاهِبَانِ »، الرابع : مذهب الكسائيِّ : وهو الجوازُ مطلقاً؛ ويستدلُّ بظاهر قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ ﴾ الآية، وبقول ضَابِىءٍ البُرْجُمِيِّ :[ الطويل ]
٢٠١٤- فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدينةِ رَحْلُهُ | فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ |
وبقوله :[ البسيط ]
٢٠١٥- يَا لَيْتَنَا وَهُمَا نَخْلُو بِمَنْزِلَةٍ | حَتَّى يَرَى بعْضُنَا بَعْضاً وَنَأتَلِفُ |
وبقوله :[ الوافر ]
٢٠١٦- وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ | ................... |
وبقوله :[ الرجز ]
٢٠١٧- يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ... وبقولهم :
« إنَّكَ وَزَيْدٌ ذَاهِبَانِ »، وكلُّ هذه تَصْلُحُ أن تكونَ دليلاً للكسائيِّ والفراء معاً، وينبغي أن يُوردَ الكسائيُّ دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعراب الاسم؛ نحو :
« إنَّ زَيْداً وعَمْرو قائِمَانِ »، وردَّ الزمخشريُّ الرفع على المحلِّ؛ فقال :
« فإنْ قلتَ : هلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطْفِ على محَلِّ » إنَّ
« واسمها، قلتُ : لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخَبَرِ، لا تقول :» إنَّ زَيْداً وعمرٌو مُنْطَلِقَانِ
«، فإنْ قلتَ : لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ، وكأنك قلتَ : إنَّ زَيْداً مُنْطلقٌ وعمرٌو؟ قلتُ : لأني إذا رفعته رفعتُه على محلِّ » إنَّ
« واسمها، والعاملُ في محلِّهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخَبَرِ؛ لأنَّ الابتداء ينتظم الجزأيْنِ في عمله، كما تنتظِمُها » إنَّ
« في عملها، فلو رَفَعْتَ » الصَّابِئُونَ
« المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء، وقد رفعت الخبر ب » إنَّ
«، لأعْمَلْتَ فيهما رافعيْن مختلفين »، وهو واضحٌ فيما رَدَّ به، إلاَّ أنه يُفْهِمُ كلامُه أنه يُجيزُ ذلك بعد استكمال الخَبَر، وقد تقدَّم أنَّ بعضهم نقل الاجماع على جوازه.