وقرأ ابن أبي عَبْلة « كَثِيراً » نصباً؛ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، وتقدم غيرَ مرَّة أنه عند سيبويه حالٌ، وقال مكي :« ولو نَصَبْتَ » كَثِيراً « في الكلام، لجازَ أن تجعله نعتاً لمصدر محذوف، أي : عَمى وصَمَماً كثيراً »، قلت : كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً، أو لم تَصِحَّ عنده؛ لشذُوذها.
وقوله :« فَعَمُوا » عطفَه بالفاء، وقوله :﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ عطفه ب « ثُمَّ »، وهو معنى حسنٌ؛ وذلك أنهم عَقِيبَ الحُسْبَانِ، حصل لهم العمى والصَّمَمُ من غير تَرَاخٍ، وأسند الفعلين إليهم، بخلافِ قوله :﴿ فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [ محمد : ٢٣ ]، لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله :﴿ ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ﴾، وعطف قوله :« ثُمَّ عَمُوا » بِحَرْفِ التراخِي؛ دلالةً على أنهم تمادَوْا في الضَّلال إلى وقْتِ التوبة.

فصل في معنى العمى والصّمم


المُرَادُ بهذا العمى والصّمم الجَهْلُ والكُفْرُ، وإذا كان كذلِكَ فنقول : فَاعِلُ هذا الجَهْلِ إمَّا أن يكون هو اللَّهُ - تعالى - أو العَبْدُ.
فالأول : يُبْطِلُ قول المُعْتَزِلَةِ.
والثاني : بَاطِل؛ لأنَّ الإنسان لا يَخْتَارُ ألْبَتَّةَ تَحْصِيلَ الجَهْلِ والكُفْرِ لِنَفْسِهِ.
فإن قيل : إنَّمَا اختاروا ذلك؛ لأنَّهُمْ ظَنُّوا أنَّهُ علمٌ.
قلنا : هذا الجَهْلُ يسبقه جَهْلٌ آخَر، إلاَّ أنَّ الجهالات لا تتَسَلْسَلُ، بل لا بد من انْتِهائِهَا إلى الجَهْلِ الأوَّل، ولا يجوز أنْ يَكُون هو العَبْدُ لِما ذَكَرْنَا فوَجَب أن يكون فاعله هو اللَّهُ تعالى.
ثُمَّ قال تعالى :﴿ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي : مِنْ قَتْل الأنْبيَاء وتكْذِيب الرُّسُلِ المقصود منه التَّهْدِيد.


الصفحة التالية
Icon