قوله تعالى :« كَيْفَ » منصوب بقوله :« نُبَيِّنُ » بعده، وتقدم ما فيه في قوله تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] وغيره، ولا يجوز أن يكون معمولاً لما قبله؛ لأن له صدر الكلام، وهذه الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ؛ لأنها معلِّقةٌ لفعل قبلها، وقوله :﴿ ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ ﴾ كالجملةِ قبلَها، و « أنَّى » بمعنى « كَيْفَ »، و « يُؤفَكُونَ » ناصبٌ ل « أنَّى » ويُؤفَكُونَ : بمعنى يُصْرَفُونَ.
وفي تكرير الأمر بقوله :« انْظُرْ » « ثُمَّ انْظُرْ » دلالةٌ على الاهتمام بالنظرِ، وأيضاً : فقد اختلف متعلَّقُ النظريْنِ؛ فإنَّ الأولَ أمرٌ بالنظَرِ في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآياتِ، وبيانها؛ بحيث إنه لا شكَّ فيها ولا ريب، والأمرُ الثاني بالنَّظَر في كونهم صُرِفُوا عن تدبُّرها والإيمان بها، أو بكونِهِم قُلِبُوا عمَّا أريدَ بهم، قال الزمخشريُّ :« فإنْ قلت : ما معنى التراخي في قوله :» ثُمَّ انْظُرْ « ؟ قلت : معناه ما بين التعجُّبَيْنِ، يعني : أنه بيَّن لهم الآياتِ بياناً عجباً، وأنَّ إعراضهم عنها أعْجَبُ منه ». انتهى، يعني : أنه من باب التراخِي في الرُّتَبِ، لا في الأزمنةِ، ونحوه ﴿ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١ ] وسيأتي.
فصل في معنى الإفك
يُقَالُ : أفَكَهُ يأفِكُهُ إفْكاً إذا صَرَفَهُ، والإفْكُ : الكَذِبُ؛ لأنَّهُ صَرْفٌ عَنِ الحَقِّ، وكُلُّ مَصْرُوفٍ عَنِ الشَّيْء مأفوكٌ عنه.
وقد أفَكَت الأرْضُ، إذا صُرِفَ عَنْهَا المَطَرُ.
والمعنى : كَيْف يصرفون عن الحَقِّ؟
قال أهْلُ السُّنَّةِ : دلَّتِ الآيَةُ على أنَّهُمْ مَصْرُوفُون عن تَأمُّلِ الحَقِّ، والإنْسَان يمتنع أن يَصْرِفَ نَفْسَهُ عن الحقِّ والصِّدْق إلى البَاطِلِ والجَهْلِ والْكَذِب، لأنَّ العاقل لا يختار لِنَفْسِه ذلك، فَعَلِمْنَا أنَّ الله تعالى صَرَفَهُمْ عن ذلك.