قال أكثر المفسِّرِين : يعني أهْلَ « أيلة » لمَّا اعْتَدُوا في السَّبْتِ قال داوُدُ :« اللَّهُمَّ الْعَنْهُم واجْعلْهُم آيَةً » فَمُسِخُوا قِرَدَةً، وأصحاب المائدة لما أكلُوا من المائدة، ولم يُؤمِنُوا، قال عيسى - عليه السلام - : اللَّهُمَّ العَنْهُم كما لَعَنْتَ أصْحَابَ السَّبْتِ، فأصْبَحُوا وقد مسخوا خنازير، وكانوا خمسَةَ آلافِ رَجُلٍ ما فيهمُ امْرأةٌ ولا صَبِيٌّ.
قال بعضُ العُلَماء : إنَّ اليَهُود كانُوا يفْتَخِرُون بأنَّهُم من أوْلاد الأنْبِيَاء، فَذَكَر اللَّهُ هذه الآيَة؛ لتَدُلَّ على أنَّهُمْ مَلْعُونِين على ألْسِنَةِ الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام -.
وقيل : إنَّ داوُد وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - بَشَّرَا بِمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، ولعنَا من يُكَذِّبُه وهو قولُ الأصَمِّ.
قوله تعالى :﴿ مِن بني إِسْرَائِيلَ ﴾ : في محلِّ نصْبٍ على الحال، وصاحبُها : إمَّا « الَّذينَ » وإمَّا واو « كَفَرُوا » وهما بمعنى واحدٍ، وقوله :﴿ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ﴾ المرادُ باللسانِ الجارحةُ، لا اللغةُ، كذا قال أبو حيان، يعني : أنَّ الناطِقَ بلعْنِ هؤلاء لسانُ هذيْن النبيَيْنِ، وجاء قوله « عَلَى لِسَانِ » بالإفرادِ دون التثنيةِ والجَمْعِ، فلم يَقُلْ :« عَلَى لِسَانَيْ » ولا « عَلَى ألْسِنَةِ » لقاعدةٍ كليةٍ، وهي : أن كلَّ جزأيْنِ مفردَيْنِ من صاحبيهما، إذا أُضِيفَا إلى كليهما من غير تفريقٍ، جازَ فيهما ثلاثةُ أوجه : لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ -، ويليه التثنيةُ عند بعضهم، وعند بعضهم الإفرادُ مقدَّمٌ على التثنية، فيقال :« قطَعْتُ رُءُوسَ الكَبْشَيْنِ »، وإنْ شئْتَ : رَأسَي الكَبْشَيْن، وإن شئْتَ : رَأسَ الكَبْشَيْنِ، ومنه :﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [ التحريم : ٤ ].
فقولي « جُزْأيْن » : تحرُّزٌ من شيئين ليْسَا بجزأيْن؛ نحو :« دِرْهَمَيْكُمَا »، وقد جاء :« مِنْ بُيُوتِكُمَا وعَمَائِمِكُمَا وأسْيَافِكُمَا » لأمْنِ اللَّبْسِ.
وبقولي :« مُفْردَيْنِ » : من نحو :« العَيْنَيْنِ واليَدَيْنِ »، فأمَّا قوله تعالى :﴿ فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [ المائدة : ٣٨ ] ففُهِم بالإجْماعِ.
وبقولي :« مِنْ غَيْرِ تَفريقٍ » : تحرُّزٌ من نحو : قطعْتُ رَأسَ الكَبْشَيْنِ : السَّمِين والكَبْشِ الهَزيلِ؛ ومنه هذه الآية، فلا يجوزُ إلا الإفرادُ، وقال بعضهم :« هُوَ مُخْتَارٌ »، أي : فيجوز غيرُه، وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ.
قال شهاب الدين : وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ، ويؤيِّد ذلك ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال :« نَزَّلَ اللَّهُ لَعْنَهُمْ في الزَّبُورِ على لسانِ دَاوُدَ، وفي الإنجيلِ على لسانِ عيسى »، وقوةُ هذا تأبَى كونه الجارحةَ، ثم إنِّي رأيتُ الواحديَّ ذكر عن المفسِّرين قولين، ورجَّح ما قلته؛ قال - رحمه الله - :« وقال ابن عبَّاس : يريد في الزَّبُور وفي الإنجِيلِ، ومعنى هذا : أنَّ اللَّهَ تعالى لَعَنَ في الزَّبُور من يكْفُرُ مِنْ بني إسرائيل، وكذلك في الإنجيلِ، وقيل : على لسان دَاوُدَ وعيسَى؛ لأنَّ الزبورَ لسانُ داوُدَ، والإنجيلَ لسانُ عيسى »، فهذا نصٌّ في أن المراد باللسانِ غيرُ الجارحَةِ، ثم قال :« وقال الزَّجَّاج :» وجائزٌ أن يكون داوُدُ وعيسَى عَلِمَا أنَّ محمَّداً نَبِيٌّ مبعوثٌ، وأنهما لَعَنَا من يَكْفُرُ به «، والقول هو الأوَّل، فتجويزُ الزجَّاجِ لذلك ظاهرٌ أنه يرادُ باللسانِ الجارحةُ، ولكن ليس قولاً للمفسِّرين، و » عَلَى لسانِ « متعلِّقٌ ب » لُعِنَ « قال أبو البقاء :» كما يُقال : جَاءَ زَيْدٌ على فَرَسٍ «، وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهر أنه حالٌ، وقوله :» ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا « قد تقدَّم نظيره، وقوله :» وَكَانوا يَعْتَدُونَ « في هذه الجملةِ الناقصةِ وجهان :
أظهرهما : أن تكون عطفاً على صلةِ » مَا « وهو » عَصَوْا «، أي : ذلك بسبب عصيانِهم وكونهم معتدين. والثاني : أنها استئنافيةٌ، أي : أخبر الله تعالى عنهم بذلك، قال أبو حيان :» ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشَّرْحِ له، وهو قولُه : كانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ «.