إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذكرُه، ومن مجيئه جمعاً الآيةُ، ولم يَرِدْ في القرآنِ الكريمِ إلا جَمْعاً؛ وقال كثيرٌ :[ الكامل ]

٢٠٤١- رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذِينَ عَهِدتهُمْ يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العِقَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجُودَا
قيل : ولا حُجَّة فيه؛ لأنه قال :« والَّذِينَ » فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمِعَ؛ لأجلِ هذا الجمعِ، لا لكونِ « رُهْبَانٍ » جمعاً، وأصرحُ من هذا قولُ جريرٍ :[ الكامل ]
٢٠٤٢- رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأوْكِ تَنَزَّلُوا والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفَادِرِ
قال أبو الهيثم : وإنْ جُمِعَ الرُّهْبَانُ الواحدُ « رَهابين ورَهَابَنَة »، جاز، وإنْ قلت : رَهَبانِيُّونَ كان صواباً؛ كأنك تَنْسُبُه إلى الرَّهْبَانِيَّة، والرَّهْبَانِيَّةُ من الرَّهْبَةِ، وهي المخافةُ، وقال الراغب، « والرُّهْبَانُ يكون واحداً وجمعاً، فمنْ جعلهُ واحداً، جَمعه على رَهَابِينَ، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ »، يعين : أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفَرَازِنَة والمَوَازِجَة والكَيَالِجَة، وقال الليث :« الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرُ الراهبِ والتَّرَهُّب : التعبُّد في صَوْمَعَة »، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدِّم في أن القُسُوسَة مصدرٌ من القَسِّ والقسِّيس، ولا حاجةَ إلى هذا، بل الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّبِن وهو التعبُّد أو من الرَّهَبِ، وهو الخوفُ، ولذلك قال الراغب :« والرهبانيَّةُ غُلُوُّ مَنْ تحمَّلَ التعبُّدَ مِنْ فَرْطِ الرَّهْبة »، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله :﴿ وَإِيَّايَ فارهبون ﴾ [ البقرة : ٤٠ ].
وعِلَّةُ هذا التَّفَاوُتِ : أنَّ اليَهُودَ مخْصُوصُون بالحِرْصِ الشَّديد على الدُّنْيَا، قال :﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ ﴾ [ البقرة : ٩٦ ] لِقُرْبِهِمْ في الحِرْصِ بالمُشرِكِين المنكِرينَ للمَعَادِ، والحِرْصُ مَعْدِنُ الأخلاقِ الذَّمِيمَةِ، لأن من كان حَرِيصاً على الدُّنيا طرح دينه في طَلَبِ الدُّنْيا، وأقدمَ على كل مَحْظُورٍ مُنْكَرٍ بسببِ طلبِ الدُّنْيَا، فلا جَرَم تشْتَدُّ عداوَتُهُ مع كُلِّ مَنْ نَالَ مَالاً وَجَاهاً، وأمَّا النَّصَارى، فإنَّهُمْ في أكْثَرِ الأمْرِ مُعْرِضُون عَنِ الدُّنْيَا، مُقْبِلُون على العِبَادَةِ، وتَرْكِ طلبِ الرِّياسة والتكبُّرِ والتَّرفُّعِ، وكُلُّ مَنْ كان كذلِكَ، فإنَّه لا يَحْسُدُ النَّاس ولا يُؤذِيهم، بل يكون ليِّن العَرِيكَة في طلبِ الحقِّ، سَهْل الانقِيَاد له، فَهَذَا هو الفَرْقُ بين هذيْنِ الفرِيقَيْن، وهو المرادُ بقوله تعالى :﴿ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾.
وفيه دقِيقَةٌ نافِعَةٌ في طَلب الدِّينِ، وهو أنَّ كُفْرَ النَّصَارى أغْلَظ من كُفْرِ اليَهُود؛ لأنَّ النَّصَارى يُنَازِعُون في الإلهيَّات والنُّبُوَّاتِ، واليَهُودُ : لا ينازِعُون إلاَّ في النُّبُوَّاتِ، ولا شَكَّ أن الأوَّل أغْلَظَ؛ لأنَّ النَّصَارى مع غِلَظِ كُفْرِهم، لم يشْتَدَّ حِرْصُهُم على طلبِ الدُّنْيَا، بل كان في قَلْبِهِم شَيْءٌ من المَيْلِ إلى الآخِرَة، شَرَّفَهُم اللَّه بقوله تعالى :﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ﴾.
وأمَّا اليهودُ مع أنَّ كُفْرَهُم أخفُّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارى، طردهم اللَّهُ وخصَّهُم بمزيدِ اللَّعْنَة، وما ذلِكَ إلاَّ بسببِ تَهَالُكِهِمْ على الدُّنيا، ويُؤيِّد ذلِكَ قولُهُ - ﷺ - :


الصفحة التالية
Icon