الثالث : أنها بمعنى المَصْدَرِ ك « العافِيَة والعَاقِبَة والكاذِبَة واللاغية والواقِيَة »، قال تعالى :﴿ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية ﴾ [ الحاقة : ٥ ] أي : بالطُّغيان، وقال :﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [ الواقعة : ٢ ] أي كذب، وقال :﴿ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ﴾ [ الغاشية : ١١ ] أي : لغواً.
وتقول العرب : سمعت رَاغِيَة الإبل، وثاغية الشاء، يعنون رُغَاءَها وثُغَاءَها.
قال الزَّجَّاج :[ ويقال ] عافاه اللَّهُ عافِيَةً، ويؤيِّد هذا الوجْهُ قراءة الأعمش « على خِيَانَة » وأصل « خَائِنة » خاوِنَة وخِيَانة وخوانة [ لقولهم : تَخوَّنَ، وخَوَّان ] وهو [ أخْوَن، وإنما أُعِلاَّ إعلال « قائمة »، و « قيام » ].
و « مِنْهُم » صفة ل « خَائِنة » إن أُرِيد بها الصِّفَة، وإن أُرِيد بها المَصْدر قُدِّر مضَاف، أي : من بَعْض خيَانَاتِهِم.
قوله تعالى :« إلاَّ قَلِيلاً » منصُوب على الاسْتِثْنَاء، وفي المُسْتَثْنَى منه أربَعَةُ أقْوال :
أظهرُهَا، أنَّه لفظ « خَائِنة »، وهُمَ الأشخاص المَذْكورُون في الجُمْلَةِ قَبْلَه، أي : لا تَزالُ تطَّلِع على مَنْ يَخُون منهم إلاَّ القليل، فإنَّه لا يَخُون فلا تَطلعْ عليه، وهم الذين أسْلَمُوا من أهْلِ الكِتَاب كعَبْدِ الله بن سلام وأصْحَابه.
قال أبُو البَقَاء :« ولو قُرئ بالجَرِّ على البَدَلِ لكان مُسْتَقِيماً »، يعني على البَدَل من « خَائِنَة »، فإنَّهُ في حيز كلامٍ غير مُوجب.
والثاني ذكره ابْنُ عطيَّة : أنَّهُ الفعل أي : لا تَزَالُ تَطَّلِعُ على فِعْلِ الخيانة إلا فَعْلاً قَلِيلاً، وهذا واضِحٌ إن أُريد بالخِيَانَة أنَّها صِفَةٌ لِلْفَعْلَةِ المقدَّرَة كما تقدَّم، ولكن يبْعد ما قاله ابنُ عطيَّة قوله بعده :« مِنْهُم »، وقد تقدَّم لَنَا نَظِيرُ ذلك في قوله :﴿ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ النساء : ٦٦ ] من حَيْث جَوَّز الزَّمَخْشَرِيّ فيه أنْ يكون صِفَةً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ.
الثالث : أنَّه « قُلُوبهُم » في قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾، قال صاحب هذا القول : والمُرادُ بِهِمْ :« المُؤمِنُون؛ لأنَّ القَسْوَة زالت عن قُلُوبِهِم »، وهذا بَعِيدٌ جدًّا؛ لقوله :« لَعَنَّاهُمْ ».
الرابع : أنَّهُ الضَّمِير في « مِنْهُم » من قوله :﴿ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ قال مَكيّ.
قوله [ تعالى ] :﴿ فاعف عَنْهُمْ واصفح ﴾.
قيل :« العَفْوُ » نُسِخَ بآية السَّيْف، وقيل : لَمْ يُنْسَخُ، وعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : معناه : فاعْفُ عن مُؤمنيهم، ولا تُؤاخِذْهُم بما سلَفَ منهم.
الثاني : أنَّا إن حملنا القَلِيل على الكُفَّار [ منهم الذين بَقُوا على الكُفْر ]، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أمر رسوله بالعَفْوِ عنهم في صَغَائِر زَلاَّتِهِم ما داموا بَاقِين على العهد، وهو قَوْل أبِي مُسْلِم.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين ﴾.
قال ابنُ عبَّاسٍ : إذا عَفَوْت فأنْتَ مُحْسِنٌ، وإذا كنْتَ مُحْسناً فقد أحبَّك اللَّه.
وقيل : المراد بهؤلاء المُحْسنين : هم المَعْنيّون بقوله تعالى :﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ ﴾ وهمْ الذين ما نَقَضُوا الْعَهْد.