وقوله تعالى :﴿ ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق ﴾، يَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ والمعرفةَ بالقَلْبِ مع القولِ تكُونُ إيماناً.
قوله تعالى :« يَقُولُون » الآية. فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه مستأنفٌ، فلا محلَّ له، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ.
الثاني : أنها حال من الضمير المجرور في « أعْيُنَهُمْ »، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنَّ المضافَ جزؤهُ؛ فهو كقوله تعالى :﴿ مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً ﴾ [ الحجر : ٤٧ ].
الثالث : أنه حالٌ من فاعل « عَرَفُوا »، والعاملُ فيها « عَرَفُوا »، قال أبو حيان لمَّا حكى كونه حالاً :« كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يُبَيِّنا ذا الحال، ولا العامل فيها »، قال شهاب الدين : أمَّا أبو البقاء، فقد بَيَّنَ ذا الحال، فقال :« يَقُولُونَ » حالٌ من ضمير الفاعل في « عَرَفُوا »، فقد صرَّح به، ومتى عُرِفَ ذو الحال، عُرِفَ العالمُ فيها؛ لأنَّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها، فالظاهرُ : أنه اطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاءِ سَقَطَ منها ما ذكرته لك، ثم إنَّ أبا حيان ردَّ كونها حالاً من الضمير في « أعْيُنَهُمْ » ؛ بما معناه : أن الحالَ لا تَجيءُ من المضافِ إليه، وإن كان المضافُ جُزْأهُ، وجعله خطأ، وأحال بيانه على بعضِ مصنَّفاته، ورَدَّ كونها حالاً أيضاً من فاعل « عَرَفُوا » ؛ بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتهم الحقَّ بهذه الحال، وهم قد عرفوا الحقَّ في هذه الحالِ وفي غيرِها، قال :« فالأوْلَى : أن يكون مستأنفاً »، قال شهاب الدين : أمَّا ما جعله خطأ، فالكلام معه في هذه المسألة في موضوعٍ غَيْرِ هذا، وأمَّا قوله :« يَلْزَمُ التَّقييدُ »، فالجوابُ : أنه إنما ذُكِرَتْ هذه الحالُ؛ لأنَّها أشرفُ أحوالهم، فَخَرَجَتْ مخرجَ المدحِ لهم، وقوله تعالى :« رَبَّنا آمَنَّا » في محلِّ نصب بالقول، وكذلك :« فاكْتُبْنَا » إلى قوله سبحانه :« الصَّالِحِينَ ».

فصل


المعنى : يَقُولُون ربَّنَا آمنَّا بما سَمِعْنَا وشَهِدْنَا بأنَّهُ حقٌّ، ﴿ فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾ يريد : أمَّةَ مُحَمَّدٍ - ﷺ - لقوله - تعالى - :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
وقيل : كُلُّ مَنْ شَهِدَ من أنْبِيَائِك ومُؤمِنِي عِبَادك بأنَّكَ لا إله غَيْرك.
قوله تعالى :﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين ﴾ :« مَا » استفهاميَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، و « لَنَا » جارٌّ ومجرورٌ خبرهُ، تقديرُه : أيُّ شيءٍ اسْتَقَرَّ لنا، و « لا نُؤمِنُ » جملة حالية، وقد تقدَّم الكلام على نظير هذه الآية، وأنَّ بعضهم قال : إنها حالٌ لازمةٌ لا يتمُّ المعنى إلا بها؛ نحو :


الصفحة التالية
Icon