« - أنَّه أتَى النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال : ائْذَنْ لنا في الاخْتِصَاء، فقال رسول اللَّهِ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم : ليس منا من خَصَى أو اخْتَصَا، إنَّ خِصَاءَ أمَتِّي الصِّيَامُ، فقال يا رسُولَ اللَّه : ائْذَنْ لنا في السِّيَاحَةِ، فقال : إنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّه، قال يا رسُول اللَّه : ائْذَنْ لنا في التَّرَهُّبِ فقال : إنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي الجُلُوسُ في المَسَاجِدِ، وانْتِظَار الصَّلاة ».
وعلى هذا ظَهَر وجه النَّظْم بين هذه الآية، وبَيْنَ ما قَبْلَها، وذلك أنَّهُ تعالى مدحَ النَّصَارى، بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِين ورُهْبَاناً، وعادَتُهُم الاحْتِرَازُ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا ولذَّاتِها، فلمَّا مَدَحَهم أوْهَمَ ذلك المدحُ ترغيب المسلمين في مِثْلِ تِلْكَ الطَّريقَةِ، فَذَكَرَ تعالى عَقِيبَهُ هذه الآيَة، إزالةً لذلك الوَهْمِ؛ ليظْهَرَ لِلْمُسْلِمِين أنَّهُمْ ليْسُوا مَأمُورين بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ؛ واللَّه أعلم.
فإن قيل : ما الحكْمَةُ في هذا النَّهْي؟ ومن المعْلُومِ أنَّ حبَّ الدُّنْيَا مُسْتَوْلٍ على الطَّبَاع والقُلُوبِ، فإذا تَوَسَّع الإنْسَانُ في اللَّذَّاتِ والطَّيِّبَاتِ : اشتدَّ مَيْلُهُ إليها وعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فيها، وكُلَّمَا أكْثر التَّنْعِيم ودَامَ كان ذلك المَيْلُ أقْوَى وأعْظَم، وكُلَّمَا ازدَادَ المَيْلُ قوَّةً ورغْبَةً، ازدَادَ حِرْصُهُ في طَلَبِ الدُّنْيَا، واسْتِغْرَاقُهُ في تحصيلهَا، وذلك يمنعه عن الاستغراقِ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ - تعالى - وطاعَتِهِ، ويمنَعُهُ عن طلب سَعَادَات الآخِرَةِ، وأمَّا إذا أعْرَضَ عن لَذَّاتِ الدُّنيا وطيِّبَاتها، فكُلَّمَا كَانَ ذَلِكَ الإعْرَاض أتَمَّ وأدْوَمَ، كان ذلك المَيْلُ أضْعَف، وحينئذٍ تتفرَّغُ النَّفْسُ لطَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تعالى، والاسْتِغْرَاق في خدمَتِهِ، وإذا كان الأمْرُ كَذَلِكَ فما الحكمة في نَهْيِ اللَّهِ تعالى عَنِ الرَّهْبَانِيَّة؟.
فالجواب من وجوه :
الأولُ : أنَّ الرَّهْبَانِيَّة المفرطة، والاحتِرَاز التَّامَّ عن الطَّيِّبَاتِ واللَّذَّاتِ، ممَّا يوقع الضَّعْفَ في الأعْضَاء الرَّئِيسيَّة - التي هي القَلْبُ والدِّمَاغُ -، وإذا وَقَعَ الضَّعْفُ فيهما اخْتلت الفِكْرَة وتَشَوَّش العَقْلُ.
ولا شَكَّ أنَّ أكْمَل السَّعَاداتِ وأعظمَ القُرُبَات، إنَّما هو مَعْرِفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، فإذَا كانتِ الرَّهْبَانِيَّةُ الشَّديدةُ مِمَّا يوقع الخَلَلَ في ذلِكَ، لا جَرَمَ وقعَ النَّهْي عَنْهُ.
الثاني : سَلَّمنَا أنَّ اشْتِغَال النَّفْسِ باللَّذاتِ يَمْنَعُهَا عن الاشْتِغَال بالسَّعَادَاتِ العَقْلِيَّة، ولكن في حقِّ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ أمَّا النُّفُوسُ المسْتَعْلِيَةُ الكامِلَةُ، فإنَّه لا يَكُونُ اشتِغَالُها في اللَّذاتِ الحِسِّيَّةِ مانِعاً من الاشْتِغَالِ بالسَّعَادَات العَقْلِيَّة، فإنَّا نُشَاهِدُ بعض النُّفُوس قد تكون ضَعِيفَة، بِحَيْثُ متى اشْتَغَلَتْ بِمُهِمٍّ امْتَنَعَ عليها الاشْتِغَالُ بِمُهِمٍّ آخر، وكُلَّما قَويَتِ النَّفسُ كانت هذه الحَالَةُ أكْمَل، وإذا كانَ كذَلِكَ، فالمرادُ الكَمَالُ في الوَفَاءِ بالجهَتَيْنِ.
الثالث : أنَّ من اسْتَوْفَى اللَّذَاتِ الحِسِّيَّةَ، وإن غرضُهُ بذلك الاسْتِعَانَة على استِيفَاء اللَّذَّاتِ العَقْلِيَّةِ، فإنَّ مجاهَدَتَهُ أتَّمُّ مِنْ مُجَاهَدَة من أعْرَض عَنِ اللَّذَاتِ الحِسَّيَّةِ.
الرابع : أنَّ الرَّهْبَانِيَّةِ مع المُواظَبَةِ على المَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ والطَّاعة، فإنَّه عِمَارةُ الدُّنْيَا والآخِرَة، فكانَتْ هَذِهِ الحال أكْمَل القول.
الثاني في تفْسِير هذه الآية ذَكَرَهُ القَفَّال - [ رحمه الله ] - وهو أنَّهُ تعالى قال في أوَّل السُّورةِ :