٢٠٥١- وَكُلُّ رَجَّاسٍ يَسُوقُ الرَّجْسَا... وفرَّق ابن دُرَيْدٍ بين الرِّجْسِ والرِّجْزِ والرِّكْسِ، فجعل الرِّجْسَ : الشرَّ، والرِّجْزَ : العذابَ، والرِّكْسَ : العَذِرةَ والنَّتْنَ، ثم قال :« والرِّجْسُ يقال للاثْنَيْنِ »، فتحصَّلَ من هذا؛ أنه اسمٌ للشيءِ القَذِرِ المنتنِ، أو أنه في الأصل مصدرٌ.
وقوله تعالى :﴿ مِّنْ عَمَلِ الشيطان ﴾ في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل « رِجْس ».
وهذا أيْضاً مُكَمِّلٌ لكونِهِ رجْساً؛ لأنَّ الشَّيطان نَجْسٌ خَبِيثٌ؛ لأنه كَافِرٌ، والكَافِرُ نَجسٌ لقوله تعالى ﴿ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ ﴾ [ التوبة : ٢٨ ] والخبيث لا يَدْعُو إلاَّ إلى الخَبِيثِ لقوله تعالى :﴿ الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ ﴾ [ النور : ٢٦ ] والهاء في « فَاجْتَنِبُوهَ » تعودُ على الرِّجْس، أي : فاجتنبُوا الرِّجْسَ الذي أخْبَرَ به مما تقدَّم من الخَمْر وما بعدها، وقال أبو البقاء :« إنها تعود على الفِعْلِ »، يعني الذي قدَّره مضافاً إلى الخَمْر وما بعدها، وإلى ذلك نحا الزمخشريُّ أيضاً، قال :« فإنْ قلتَ : إلامَ يَرْجِعُ الضميرُ في قوله : فاجتنبُوهُ؟ قلت : إلى المضافِ المحذوفِ، أو تعاطيهمَا، أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال : رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ »، وقد تقدَّم أن الأحْسَنَ : أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرِّجْسِ مبالغةً.
قوله تعالى :« فِي الخَمْرِ » : فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « يُوقِعَ »، أي : يُوقعَ بينكم هذين الشيئينِ في الخمر، أي : بسبب شرْبها، و « في » تفيد السسببيةَ؛ كقوله عليه السَّلام :« إنَّ امرأةً دخلتِ النَّارَ في هِرَّةٍ ».
الثاني : أنها متعلِّقة بالبغضاء؛ لأنه مصدر معرف ب « ألْ ».
الثالث : أنه متعلقٌ ب « العداوة »، وقال أبو البقاء :« ويجوزُ أن تتعلَّق » في « بالعداوة، أو ب » البَغْضَاء «، أي :[ أنْ ] تَتَعادَوْا وأنْ تَتَبَاغَضُوا بسبَبِ شُرْبِ الخَمْرِ » ؛ وعلى هذا الذي ذكره : تكونُ المسألةُ من باب التنازعِ، وهو الوجهُ الرابع، إلاَّ أنَّ في ذلك إشكالاً، وهو أنَّ من حقِّ المتنازعين؛ أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعملِ، وهذا العاملُ الأولُ، وهو العداوة، لو سُلِّط على المتنازعِ فيه، لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبيٍّ وهو المعطوف، وقد يقال : إنه في بعضِ صُورِ التنازع يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني، وذلك في فِعْلَي التعجُّبِ، إذا تنازعا معمولاً فيه، وقد تقدَّمَ مُشْبَعاً في البقرة.
فصل في مفاسد الأشياء المذكورة في الآية
اعلم أنَّه تعالى لمّا أمَرَ باجْتِنَابِ هذه الأشياءِ، ذكر فِيهَا نوعَيْنِ من المَفْسَدَة :
الأول : ما يتعلَّقُ بالدُّنْيَا وهُوَ قولُهُ تعالى ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر ﴾.
والثاني : المَفْسَدَةُ المُتعلِّقَةُ بالدِّين، وهو قولُهُ تعالى :﴿ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة ﴾.
فأمَّا شَرْحُ هذه العداوة [ والبغضاء أولاً في الخَمْر ثمَّ في المَيْسِر ] : وأمَّا الخَمْرُ، فاعْلَم : أنَّ الظَّاهر فيمَنْ يَشْرَبُ الخَمْرَ، أنَّه يَشْرَبُهَا مع جَمَاعةٍ، ويكونُ غَرَضُهُ الاسْتِئْنَاس برُفَقَائِهِ، ويفرحُ بِمُحَادثَتِهمْ، ويكون بذلك الاجْتِمَاع تأكيدُ المَحَبَّةِ والألْفَةِ، إلاَّ أنَّ ذلِكَ في الأغْلَبِ ينقلبُ إلى الضِّدِّ؛ لأنَّ الخَمْرَ يُزيلُ العَقْلَ، وإذا أزَالَ العَقْلَ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ والغَضَبُ من غير مُدَافَعَةِ العقل، وعند اسْتِلائِهما تَحْصُلُ المُنازَعَةُ بين أولَئِكَ الأحْبَاب، وتِلْكَ المُنَازَعَةُ رُبَّما أدَّتْ إلى الضَّرْبِ والقَتْلِ، والمُشافَهَةِ بالفُحْشِ، وذلك يُورِثُ أشَدَّ العداوةِ والبَغْضَاء، كما فعل الأنْصَارِيُّ الذي شَجَّ رأسَ سَعْد بن أبي وقّاص بلحي الجَمَل.