فصل
قال القُرْطُبِي : فَهِمَ الجُمْهُورِ من تَحْرِيم الخَمْرِ، وإطلاقِ الرِّجْس عليها، والأمْر باجْتِنَابِهَا، الحكم بِنَجَاسَتِهَا، وخَالَفَهُمْ في ذلك رَبيعَةُ، واللَّيْثُ بنُ سَعْد، والمُزَنِيُّ، وبَعْضُ المُتَأخِّرِين من البَغْدَادِيِّين والقَرَويِّين، وقالُوا : إنَّها طَاهِرَةٌ وأنَّ المُحرَّمَ إنما هو شُربُهَا؛ لأنَّ المَيْسِر والأنْصَاب والأزْلامَ ليسوا بِنَجسٍ، فكذلِكَ الخَمْرُ، ولجواز سَكْبِهَا [ في ] طُرُقِ المدينَةِ، مع نَهْيِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن التَّخَلِّي في الطريق.
قوله تعالى :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر، أي : انْتَهُوا.
رُوِيَ أنَّه لمَّا نزلَ قوْلُ اللَّهِ تعالى :﴿ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] قال عُمَر بنُ الخطَّابِ - رضي الله تعالى عنه - :« اللَّهُمَ بيِّن لَنَا في الخَمْرِ بَيَاناً شافياً » فلما نَزَلَتْ هذه الآيَةُ قال عُمَرُ - رضي الله عنه - :« انْتَهَيْنَا يا رَبِّ، انْتَهَيْنَا يَا ربِّ » ويدلُّ على أن المراد منه الأمر أيضاً : عطفُ الأمر الصَّريحِ عليه في قوله « وأطيعُوا »، كأنه قيل : انتهوا عن شُرْبِ الخَمْرِ، وعن كذا، وأطِيعُوا، فمجيءُ هذه الجملةِ الاستفهاميةِ المصدَّرة باسْم مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعلٍ دالٍّ على ثبوتِ النهي واستقراره - أبلغُ من صريح الأمر.
قال ابنُ الخطيب : وإنما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ الله تعالى ذمَّ هذه الأفعالَ، وأظْهَرَ قُبْحَهَا للمُخَاطَبِ، فلما استفهم بَعْدَ ذَلِكَ عن تَرْكِهَا، لم يَقْدِر المُخَاطبُ إلاَّ على الإقْرَارِ بالتَّرْكِ، وكأنَّه قِيلَ لَهُ : أتَفْعَلُه وقَدْ ظَهَر من قُبحهِ ما ظَهَر؛ فصار ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ ؛ جَارِياً مُجْرَى تنصِيصِ اللَّهِ تعالى على وُجُوبِ الانْتِهَاءِ، مَقْرُوناً بإقْرَارِ المُكَلَّفِ بوجوبِ الانْتِهَاءِ.
واعلم : أنَّ هذه الآيةُ دالَّةٌ على وُجوبِ تحريم شُرْبِ الخَمْرِ من وُجُوهٍ :
أحدها : تَصْدِيرُ الجُمْلَة ب « إنَّما » وهي لِلْحَصْرِ، فَكَأنَّهُ قال : لا رِجْسَ ولا شَيءَ من أعْمَالِ الشَّيْطَانِ إلاَّ هذِهِ الأربَعَةُ.
وثانيها : أنَّهُ تعالى قَرَنَ الخَمْرَ والميْسِر بِعبَادةِ الأوْثَان، ومنه قولُهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - :« شَارِبُ خَمْرٍ كَعَابدٍ وثَنٍ ».
وثالثها : قال « لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون »، جعلَ الاجْتِنَاب من الفلاحِ، وإذا كان الاجْتِناب فَلاَحاً، كان الارْتِكَابُ خَيْبَةً.
ورابعها : ما تقدَّم من اشْتِمَال الاسْتِفْهَامِ على المَنْفِي.